+ A
A -
يقول عنه الدكتور لويس عوض:
«وقد بقيت حلقة توفيق الحكيم صغيرة رغم مرور الأيام، غالباً لأنَّ أكثر أحاديثه كانت حضارية مما لا يفهمه سوقة الأدباء، كما أنَّها كانت ذات نكهةٍ أوروبيةٍ غير سائغةٍ للمحافظين».
وكما كان للعقاد صالونه الشهير، ولطه حسين كذلك في ذاك العصر، أخذ توفيق الحكيم عادة المقهى الثقافي من مقاهي باريس الثقافية التي جاءت بديلةً للصالونات في بدايات القرن الماضي، وجديرٌ بالذكر أنّ الحكيم هو أولُ أديبٍ تمنحه الدولة حقَّ التفرغ للأدب، فأبدع لنا تلك الآثار الأدبية الرائعة التي ارتقت وسمت بالفكر والفن والشعور الإنساني.
القراءة للحكيم رحلةٌ تأمليةٌ هادئةٌ على متنِ زورقٍ يجوبُ عُمقَ فِكرةٍ ينسج الفن حولها لوحته المُتَخيلَة ببديع تصوراته ويُعبِرُ بشفافيةٍ عن رؤيته للجمال، إذن لنقرأ معاً شيئاً من ذلك في مسرحية ( بجماليون ).
مسرحية بجماليون
بجماليون ذلك النحات الشهير الذي ينحت تمثالاً عاجياً جميلاً لامرأةٍ اختزل فيه نظرته للجمال وإحساسه العميق به وألبسه أثمن الملابس وقلّده أنفس القلائد والمجوهرات، وأطلق على تمثاله العاجي اسم «جالاتيا».
ذلك النحات كان يؤمن بسطوة الفكر والفن، وخلف نافذة داره المُطلةِ على الغابة الباسقة الخمائل، كان هُناك ستارٌ حريريٌّ أبيض يواري ذلك التمثال الذي وُضِعَ على قاعدته بعناية، يحرسه نرسيس ذلك الفتى المفتون بجماله فهو خيرُ مؤتمنٍ عليه.
بجماليون الذي كان يلجأ دوماً لأبولون رمز الفكر والفن في الميثولوجيا الإغريقية، مُستمِداً منه مواهبه وقُدراته الفذة، مُنصرفاً عن فينوس رمز الحب والجمال والحياة، يُغير رأيه فجأةً ويلجأ لفينوس لتهب جالاتيا الحياة فقد أحبها وتمنى أن تكونَ زوجةً له.
وبعد أن تلبي فينوس طلبه، وتحقق له أمنيته المُستحيلة، وتتحرك جالاتيا، يفرح بجماليون، ذاك الذي كان يراها نموذجاً مثالياً للكمال وهي تمثالٌ لا حياةَ فيه.
ثم ينشأ التحدي والجدل ويحتدم بين رمزي الفكر والفن والحب والجمال، وبين إيسمين التي أرادت نزع النرجسية من نرسيس، يحدثُ ذلك كله عندما تتحقق أمنية بجماليون التي طلبها من فينوس، فما الذي حصل ؟ هل ظلت جالاتيا جميلة ؟ وهل استمرت نرجسية نرسيس ؟ وهل نظرة الإنسان الذي لا يبلغ الكمال مهما أراد وحقق، من الممكن أنْ تُحَقِقَ له الكمال الذي يُنشد من خلال تحقيقها..؟ وهل فكره وفنه وتَصَوُره لما هو نموذجي ومثالي في الحياة يقدمان له ماهو تام بلا نقصان أو عيوب..؟
هذا ما سُنحاول الإجابة عنه في السطور القادمة..
الحكيم والفن
يقول توفيق الحكيم: (الفنُ واسعٌ، ولكن عيون الناس هي الضيقة).
من لوحةٍ زيتيةٍ بريشة الفنان جان راوكس لبجماليون وجالاتيا وقع عليها نظر الحكيم وهو يتجول في متحف اللوفر وانصرف عنها بينما ظلت هي تواصل إلهامها له إلهاماً تلو الآخر، فكتب حينها الحلم والحقيقة، وبعد مايربو عن عقدٍ من الزمان، كتب مسرحية بجماليون عام 1942م وتمت ترجمتها ونشرها باللغة الفرنسية عام 1950م.
الفن واسعٌ كما قال واستمرارية تأثير لوحة في كاتب ليُبدع روائعه على مدىً زمني يدل على سعة ورحابة الأُفق الفني الذي ترفرفُ فيه خيالاته وشخوصه الأدبية، ذلك بالرغم من علمه أنَّ هذه الأسطورة اليونانية قد كُتِبت حولها عدة مسرحيات، وتناولتها أغلب الأنواع الأدبية، إلا أنَّه يملك تأثيره الفني الخاص ويؤمن بذلك الإبداع الذي يبني عليه نصوصه من فكره العميق الخالص، لتجدَ أنَّ الأسطورةَ التي سمعتها مراراً وتَكراراً وكأنَّها انضمت للتو لعالم الأساطير..!
المسرح الذهني
كان الحكيم يتخوف دائماً من تمثيل مسرحياته، ويرى أنَّها لا تصلح للتمثيل إطلاقاً، لأنه يعتقد أنَّ المسرح الذي ألفه الناس هو ذلك المسرح الذي يستثير عواطفهم حيث يتأجج فيه الصراع بين طرفين تتضاد لديهما الأهواء.
«لكن ماذا هم يشعرون أمام صراع بين الإنسان والزمن، وبين الإنسان والمكان، وبين الإنسان وملكاته ؟.. هذه الأشياء المُبهمة والأفكار الغامضة أتصلح لهزِّ المشاعر بقدر ما تصلح لفتق الأذهان؟».. هكذا يتساءل الحكيم، حول مكان المسرح الذهني الذي يُقدمه، إذ يرى أنَّهُ مسرح للقراءة والتأمل لا للمُشاهدة، وذلك لأنّ عُمق الفكر والفلسفة المطروحان فيه يستعصيان على التجسيد.
المسرح الذي يكتب له الحكيم، ليس ذلك المسرح التقليدي بخشبته اللامعة، وستائره الحمراء المخملية المنسدلة على جانبيه لتؤطر المشاهد بتناقضاتها بكل أناقة، بل هو يكتب لمسرحٍ آخر يُقيمه ويُشيّدَهُ في كلِّ مرةٍ وفقاً لموضوعه وظروفه لكل مسرحية من مسرحياته على حدة..! يقول الحكيم:
( إِني اليوم أُقيمُ مسرحي داخل الذهن، وأجعلُ الممثلين أفكاراً تتحرك في المطلق من المعاني، مُرتديةً أثوابَ الرموز!.. ) ذلك هو مسرح الحكيم.
الحوار والشخصيات
يقول سقراط: ( تكلم يا هذا حتى أراك )..وهذا ما يفعله كاتب المسرحية، حين يستنطق الشخصيات في حوار طويل، ومن خلال هذا الحوار ترتسم في ذهن المُتلقي ومُخيلته طبيعة هذه الشخصية بكل ما تحمله من جمالٍ أو قبح، وخيرٍ وشر، من خلال تلك المفردات المسرحية الجزلة، التي تجعل تركيز المُتلقي يُلغي الكثير من العناصر ويُهمشها، إذ ليس للمكان أو للزمان تلك الهيمنة التي نجدها في الروايات، بقدر ما لذلك البوحُ الإنساني المباشر من الشخصية نفسها دونما سردٌ من راوٍ عليم، أو مؤلفٍ ضمني كما يحدث في الرواية، فالأحداثُ تُروى وتُحكى ممن عايشوها، فمن خلال الحوار يكون العرض والعُقدة والحل، يقول الحكيم:
(والحوار باعتباره أداة المسرحية تقع عليه أعباءٌ كثيرة، بل عليه وحده تقع كل الأعباء فمنه نعرف قصة المسرحية، وما انطوت عليه من حوادث ومواقف، وهو لا يقصها علينا حكايةً وقعت في الماضي، ولكنه يُقِيمُها أمام أعيننا في الحاضر نابضةً تتحرك!).
وفي مسرحية بجماليون الحكيم تجري تلك الحوارات الذهنية التأملية الدقيقة بصوتٍ مسموعٍ من قِبَل الشخصيات فكلّ شخصيةٍ تُدافعُ بطلاقة بيانها عن قيّمها ومعتقداتها وفكرها الذي تشقُّ به دروب الحياة، بلغةٍ رقيقة المعاني تتسامى مع المشاعر الإنسانية التي اتخذتها قضيةً لها، وأحياناً كثيرة بتعابير تنمُ عن حيرة الفكر حين يعتلي أرفعَ درجات المعرفة، فيتفاجأ بضبابية الغموض فيغدو تائِهاً في دروب الحياة.
يقول الفيلسوف ديفيد هيوم: ( الجمالُ يُقِيمُ في الفِكْرِ الذي يَهْجُسُ فيه ).. وهكذا كان فِكر بجماليون رائعاً جميلاً وخَلاقاً..
فبجماليون ذلك النحات الذي يكره النساء، جعل من تمثاله جالاتيا نموذجاً لامرأة تفوقُ كُلَّ النساء جمالاً فقد أبدعها منحوتةً عاجيةً بكل ما يملك من فِكر وقُدراتٍ فنيةٍ، وبعد ذلك عشقها فقد كانت باهرة الحُسن، وعندما رأتها فينوس شعرت بأنَّها تحدٍ لها فقالت:
(أكادُ لا أُصَدِقُ أَنَّ هذا العمل يخرج من بين أصابعَ فانية)!
نُلاحظ في شخصيات المسرحية تَجَمُعاً لشخصيات الميثولوجيا الإغريقية القديمة وهي تُعَدُّ رموزاً دينية للآلهة اليونانية، ولقد كانت موضوعاً مُلهِماً عُني به أدباء الغرب في آدابهم وتناولوه كما قام أدباء العرب بعدها بذلك..
ففينوس هي رمزُ الجمال والحب والحياة، وأبولون هو رمزُ الفكر والفن، وجوبيتير هو رمزُ القيادة والقوى المُختلفة، ونرسيس هو رمزٌ لعشق الذات والأنانية ومنه اشتق سيجموند فرويد مصطلح «النرجسية»، إذ أنَّ عِشقه لذاته جعله لاينظر لأيّ مخلوقٍ فقد استولى عليه الافتتانُ بالأنا تمام الاستيلاء، لذا فشلت كلُّ محاولات إيسمين التي أحبته في أنْ تجعله يُحبها، ذلك الذي لا يرى جميلاً سواه !
المكان والزمان
يقفان بثبات، على خشبة المسرح الذهني، فالزمن هو زمن مشاهدة المسرحية والمكان إنّما هو مساحةٌ تضمُ الأحداث دون أنْ يكونَ له أثرٌ أو دورٌ ما فيها، بينما التحولُ، والدوران، والالتفافُ، يكونُ للشخصيات حول أفكارها، حيثُ تتجردُ الفكرةُ من تأثيرِهما عليها تمام التجرّد.
وكأنّ الكاتب يقول، إنّ ما نتحدث عنه قد تجري أحداثه في ذهن أيّ إنسان، أيّ كاتبٍ، بل أيّ فنان..! وللفكرة فقط تبقى وتظلّ القوة والسُلطة والأثر الخفي الذي يَعْبُرُ ويتجاوزُ كُلّ شيء، كُلّ حيِّزٍ مكاني، وكُلّ توقيتٍ زمني، هكذا تعملُ الفكرة..!
الحكيم والرمز
هذه الرموز التي تجسدها الشخصيات الأسطورية، مثلت لنا حواراً وجدلاً عبقرياً بين الفكر والفن والحب والجمال وما يدورُ حولهما من أثرة ونرجسيةٍ وقصورِ إنساني في النظرة إلى كيفية اكتمالهما وتمامهما.. ولكن لماذا يلجأ الكاتب إلى الرمز وتوظيف الميثولوجيا في الأدب، وهل وُجِدَ الرمزُ ليتوارى خلفه المعنى..؟ وما الذي يرتجيه الكاتب من خلال تواري المعاني ؟
يقولُ عباس محمود العقاد في كتابه (ساعاتٌ بينَ الكُتُب):
«ولكننا نظلمُ الإنسانية إذا حسبناها أسيرةَ الحس وحده واتخذنا من ميلها إلى الرمز والتجسيد دليلاً على ضعف سلطان المعاني عليها وضآلة شأن العقائد المُجردة في ضمائرها فإنما هي تقصدُ المعنى حين تنقشُ الرسوم وتنصبُ التماثيل وتصوغُ الأناشيد والصلوات، فلولا اشتياقها إلى تثبيت المعنى وتوكيده لما أولعت بأن تخلقَ له جسداً يستقرُ فيه ويعيدهُ إلى النفس» معنىً «أكمل وُضوحاً وأجمل منظراً وأدوم في الذاكرةِ والشعور»..
وكأنَّهُ بكلامه هذا قد ردَّ على تَساؤلي وأكثر، بل كأنَّه يُجيبُ على تساؤل قد يدور في خلد أحدنا، لماذا تكونُ الأساطير حاملةً لكل هذه المعاني عبر كل هذه العصور، ثم يتخذها الأدبُ رمزاً..!
ولكن ماذا عن طبيعة الرمز لدى الحكيم في مسرحية بجماليون، هل هو ذلك الرمز المُعقد المخبوء بين طيات النص ؟ أو هو من ذلك النوع الذي يَصعبُ تحديد إيماءاته..؟
يقول الدكتور إسماعيل أدهم في كتابه (توفيق الحكيم) عن طبيعة الرمز لديه: «توفيق الحكيم صاحب تفنن في أسلوب العرض. وهذا الأسلوب مزيجٌ من الرمزية والواقعية، والطريقة التخييلية،لهذا ترى توفيق إن نحا منحى الرمزيين في بعض قصصه ومسرحياته، إلا أنّه لا يصطنع منها لغزاً مُغلقاً ولا شبه مُغلق. ولا يهون عليه أن يترك رموزها على قرب المنال وقلة ما فيها من الغموض للقراء ليستنبطوها استنباطاً، بل تجده يؤثر أن ينص على التفسير نصاً في ظاهر السطور أثناء الحوار».
العقدة والحل
(إنَّ العمل أو الصراع الدرامي في بجماليون يدورُ على مستوى ثنائيات ثلاث: بين بجماليون وجالاتيا، وبين نرسيس وإيسمين، وبين أبولون وفينوس، وهذا الصراع هو على المستويات الثلاثة واحد في جوهره ومتكامل. وهنا بالضبط يكمن أحد جوانب قُدرة الحكيم الفنية: قُدرته على توزيع الأصوات. ومن هنا أمكن تشبيه بناء بجماليون ببناء السمفونية: «أصواتٌ مُتشابهةٌ لا كل التشابه، مُختلفةٌ لا كل الاختلاف». هكذا حدد الحكيم في أكثر من مرة بناء السيمفونية، وعلى هذا النحو أراد بناء بجماليون. ولنبدأ بالصوت أو النغم الرئيسي: بجماليون نفسه ) هذا ما ذكره الكاتب والناقد والمفكر جورج طرابيشي في كتابه الأعمال النقدية الكاملة.
ويتجسد لنا ذلك بوضوح في اختلاف المُتفقين، وتبدُل الأهواء حيث نجده بين بجماليون وجالاتيا بعد اتخاذه لها زوجةً، وتحولها من تمثالٍ عاجي إلى بشرٍ فانٍ وبوحِ كُلّ منهما بحبه للآخر..
بجماليون: لستُ أدري كيف أُفصح عن..عن..
جالاتيا: ( تصفو وتُشرق ) عن حبك لي ؟..
بجماليون: أجل !..أجل هو ذاك يا حبيبتي!..
جالاتيا: ( في دلال ) نعم، ادعني حبيبتك!..
بعد ذلك تهربُ جالاتيا مع نرسيس ذاك الذي حاولت إيسمين نزع الأنانية من نفسه لينظر إليها ويشعرُ بها..
إيسمين: يا للعجب !.. أنت وبجماليون طرف نقيض..عند أحدكما ما ليس عند الآخر..لعلّ هذا ما يربطُ أحدكما بالآخر!..
نرسيس: إِنَّه يقولُ لي أحياناً: لا تتركني يانرسيس، فأنت تُكمِلُ مابي من نقص!.. لكنه يقولُ أيضاً أحياناً: إنَّك يانرسيس الشطر الجميل العقيم للأشياء..أنت الصدفة البراقة التي لا تحوي اللؤلؤة !
إيسمين: لقد صدق..إني ما عجبت قط لحظة..إنَّ مثلك لا يرى..كم أتألم لك!
فإذا به يفرُّ مع أخرى، ويتخلى عن أنانيته لأجلها..!
وهنا يهبنا توفيق الحكيم شيئاً من روح المُفاجأة في الفكرة نفسها وكيف لا يتمُّ له ذلك وهو الذي قال: (المفاجآت المسرحية لم تَعُدْ في الحادثة بقدر ماهي في الفكرة..)!
أما التحدي فيتحولُ بين فينوس وأبولون حول الفكر والفن والجمال والحب إلى اتفاق، حين يعمُّ الوفاق والرضا أول الأمر بين المُتمنين، ثم يتخلى كلاهما عن ذلك التحدي تماماً حين يريان التناقضات التي ظنّ كُلٌّ منهما أنْ لا مجال لحدوثها البتة ما دامت الأماني تتحقق ويليها بعد وفاق كلّ شخصٍ مع الآخر نزاعٌ نفسيٌّ لكلِّ شخصٍ مع رغباته وتأنيب الشعور بعدم بالرضا..!
إذن في هذه المسرحية مع كُلٍّ عُقدةٍ حل، ورغم كُلِّ حلٍ توجدُ عُقدة..!
الإنسان و الجمال
يقول الفيلسوف برتراند راسل: (كلُّ شيءٍ يخرجُ للوجودِ جميلاً، حتى إذا مستهُ يدُ الإنسان اعتراهُ النقص والفساد).
يحبُّ الإنسان الجمال بكلِّ صُوره وأشكاله، ولكنه على الرغم من هذا الحب والبحث الدائم عنه فيما حوله، إلا أنّه في بعض الأحيان يكون سبباً من أسباب تدميره وتحطيمه، بل وفقده أيضاً، لا تسلني كيف، ولماذا..؟ لكن دعنا نُدرج هذا الأمر تحت عنوان «تناقضات إنسان»، ولنقرأ معاً ولنرى شيئاً من تلك التناقضات لدى بجماليون.
جاء بجماليون في المسرحية وكنموذجٌ حقيقي لذلك الاحتياج الإنساني الذي يبقى ويظلُّ على الرغم من اكتمال مباهج الحياة من حوله، إذ إنَّه لا يبلغ حدَّ الاكتفاء مهما حقق، أو تحقق له من مستحيلات الحياة التي يُلِحُ عليها.. وإليك قارئي مشهد تحطيم التمثال:
(بجماليون ينهضُ ببطء ويتمشى بخُطا ثقيلة نحو التمثال، ويتأمله لحظة، ويهزُّ رأسهُ يأساً..ثم يأتي بالمكنسة فيضعها بيد التمثال ويتأمله لحظة..ثُمَّ ينتزعها في عنفٍ، وينهال على رأسه تحطيماً بالمقبض الصلب للمكنسة)..
بجماليون: (صائحاً هائجاً وهو يضربُ رأس التمثال ) لا..لا..لا..لم تعُدْ مثالاً لما ينبغي أنْ أصنع !..لم تعُدْ مثالاً لما ينبغي أن يكون!..
بجماليون والحكيم
وكأنّ بجماليون يُشبهُ الحكيم في حرصه على أفكاره وخوفه من أن تتجسد على المسرح لأنّها أفكارٌ عميقةٌ لن تعمل كما ينبغي على خشبته، بل ستؤدي دورها على أكمل وجهٍ وأتمَّه على الورقة، ويُشبه بجماليون حين عامل جالاتيا كفكرة، يخشى عليها أنْ تتشوه بعدما أصبحت جسداً فيه روحٌ يروحُ ويجيء، ففضّلَ أنْ تعودَ تمثالاً ولم يكتفْ بذلك بل حطم هذا التمثال الذي صاغهُ وكأنّهُ خطيئةٌ فنية..!
والحكيم هو الذي قال عن شخصياته كما ذكرنا سابقاً: (أجعل الممثلين أفكاراً تتحرك في المطلق من المعاني، مرتديةً أثواب الرموز!)..
هل الحكيم هو بجماليون هنا، وبجماليون هو الحكيم ؟..
شيءٌ من روح الكاتب لابُدّ أنْ يتركَ أثرهُ على النص، حتى ولو كانت الشخصيات أسطورية!..الأديب والمُفكر توفيق الحكيم ( 1898-1987م )، درس الأدب والمسرح اليوناني في باريس في عشرينيات القرن الماضي، مُخالفاً بذلك رغبة والده الذي ابتعثه ليدرسَ القانون.
يُعدُّ توفيق الحكيم من الشخصيات الأدبية النادرة والفريدة في تاريخ الأدب العربي الحديث، فقد أثرى المكتبة العربية بروائع فكره ونقده وفنه في شتى الأنواع الأدبية الروائية والمسرحية والقصصية، وقد تميَّز الحكيم بمسرحه إذ أُطلق على تياره المسرحي (المسرح الذهني)، لذا وجد بعضهم صعوبةً في تجسيد مسرحياته، التي لم يكن الحكيم يتطلع إلى تمثيلها خشيةً على أعماله المسرحية من أنْ تضلَ الفكرةُ التي يطرحها طريق التجسيد الملائم لها، إذن لا عبثية في الفن والأدب لدى الحكيم.
copy short url   نسخ
11/02/2019
5882