+ A
A -
بقلم د.عادل حلمي بدر كاتب مصري
إن النماذج الشعرية التي تحمل الكثير مِنَ الحكايات في قصائد شعراء الحداثة تنتمي إلى ما يمكن أن نسميه قصيدة الشخصية، وهي حكايات تتحدث ضمن سياقها الشعري عن شخصيات على علاقة من نوع ما بالشاعر؛ العديد منها يحمل الطابع الحواري، والحوار في بعضها يحمل صوت الشاعر وحده، وفي بعضها الآخر يحمل صوته وصوت المرأة، وفي نماذج أخرى صوت المرأة فقط تقمصه الشاعر وتحدث من خلاله، يقول الشاعر محمد آدم
(أيتها السيدة)
لصوتك طائر أخّاذ،
لشمسك أعاجيبُ،
ولفضاءاتكِ،
طلسماتٌ،
وأحاجِ
تنهض هذه القصيدة على بنية حكائية اعتمدت مجموعة من الأسماء، مثلت هذه الأسماء، مجموعة من الوقائع أدت إلى تشكيل مادة حكائية.. يقول الشاعر محمد سليمان
(نورا)
لم تكن قصيرةً كشهر فبراير
ولا بضفائر طويلة لتصبح أسيرتي
لم تكن نحيفةً جداً
ولا بردفين يُشبهان الماضي
لنور ستُّ جهاتٍ
وسماءان
طيور تعلو
حين تذيب الشمسُ وجوهَ
وصورُ لمُريدين يضيق الحوتُ بهم
فنورا هنا هي الشخصية الرئيسة في النص؛ فقد بدأ النص بوصف مادي، وانتقل إلى وصف معنوي، والحدث هنا بسيط وليس مركبا؛ وقد وظف الشاعر عنصر الحدث في بناء قصائده توظيفاً فنياً راقياً، إذ تمكن من تقديم نصوص نابضة بالحركة والحيوية فبدت وكأنها مشاهد حية آنية.. يقول الشاعر محمد صالح:
(السيدة)
هذه السيدة
لا تتصور نفسها وحيدة بدونه
تموت رعبا
لأنه يهمل صحته
ويسرف في التدخين
وتلاحقه بوصاياها
حتى يختفي في بئر السلم
ثم تجري إلى الشرفة
قبل أن يستدير هو حول البناية
..........
وتلتقي عيناهما
يرى دموعها هناك
في مكانها
على قوس الخد
والصراع الدرامي قد ينشأ بين شخص وآخر أو بين شخص وبيئته وقد يحدث (بين الشخصية الواحدة ونفسها أيضاً، فتناقضات الشخصية مع نفسها والمفارقة الحادة بين واقعيتها ومثاليتها هي العناصر الرئيسة في خلق الموقف الذي ينطوي على صراع) وإن الموقف الفني هو الأساس القادر على كشف ورصد الصراع وصياغته على المستوى الفني. والإنسان في حالتي الصراع ورصد المتناقضات يستطيع إذا ما أوتي القدرة التعبيرية أن يقدم إلينا إنتاجاً درامياً من الطراز الأول وأن يقيم بناءً فلسفياً يفسر فيه الحياة تفسيراً خاصاً ناتجاً عن ممارسة للحياة وتمثل لها.. فالقصيدة الجديدة يكون فيها عنصر الصراع سمة واضحة من سماتها، فهو الذي يمدها بالحركة والتوتر، ويجعل منها صورة أو منظراً متوجهاً إلى عقل القارئ وحواسه معاً في آن واحد؛ لكن الصراع هنا داخل هذه السيدة بسبب الآخر، لكن النص يتيح للآخر التواجد «وتلتقي عيناهما- يرى دموعها» وكأن النص يترك نهاية مفتوحة لحدثه «لا تتصور نفسها وحيدة بدونه».. يقول الشاعر رفعت سلام:
- (امرأة)
جسدٌ نحيل
يشعلُ الفراغَ بالطيور والبيارقِ البهيجة
«هل أسميكِ خَسارتي القادمة؟»
تُولمُ البلادَ والطوائفَ القديمة.....لا أنتهي لا ترتوي
المرأة هنا تتمثل في جسد نحيل،الذي يشعل الفراغ،ثم يطرح النص تساؤلاً«هل أسميك خسارتي القديمة» فهي ليست كائنا شاخصا، لكنها أقرب إلى الفكرة أو الرؤية.
يقول الشاعر أحمد زرزور
هي مسئولة،إذن، عن أطفال تائهين وقصائد مخطوفة،
الفوانيس أيضاً، لم يزرها منذ سنوات
( ألا يزال غاضباً من متعبد
بلا امرأة
تمطر ؟)
هي مسئولة، لا شك، عن أحاديثي الضعيفة، كان بإمكان خمارها
إطالة الرقصة فأحب رعبي وربما استأنست رعوباً أخرى..
(لم تكوني عادلة الأعضاء
وأنا طلعت خائباً ؛
لماذا لا أطلق البحر دائماً
وأتلقى
«الربضيات» ؟)
المرأة مسؤولة عن أطفالٍ تائهين وقصائد مخطوفة، مسؤولة عن الأحاديث الضعيفة، لم تكوني عادلة، فلماذا لا أطلق البحر، وأتلقى الربضيات، فهي شخصية حدث وهو القرفصاء.
فالشخصية هي العنصر الرئيس والمهم في النص، وبالتالي الحكاية أو كما يذكر أرسطو نفسه هي أساس روح التراجيديا، ويعرفها بأنها تقليد الموضوع أي تكوين موضوع كامل، ومحاكاة الحدث لا تكون إلا بالقصة، فالنص قصة تحكي وتكون الكلمات فيه هي وسيلة التعبير عن أفكار الأشخاص ومشاعرهم ورغباتهم وأفعالهم.
يقول الشاعر أحمد طه
- (امرأتان)
ركعتان..
وفردٌ أحدْ
ركعة..يقبل الكون..
ركعة..يستدير، فهل تاقت
المرأتان إلى حضرتي
مرأةً
مرأةً
وتظهر الذات الشعرية فتغدو وكأنها الراوي NARRATOR الذي يتدخل في سير الموقف؛ كي يبلور الشخصية ويعمقها.. مما يحيل على أن ثمة نوعاً من التناغم بين النموذج والراوي، من أجل بلورة الموقف.. وقد يكون الراوي على انسجام قيمي جمالي مع النموذج.. ولكلّ نص طريقته في تناول النموذج، وفي صياغته الشعرية، وفي إحالاته الجمالية.
شخصية الممثِّلة:
ومن صور المرأة في القصيدة،أن الشخصية قد تكون رمزاً للأنثوية ؛ كأن تكون مُمثِّلة لإحدى الأفلام:
يقول الشاعر أحمد زرور
إلى «أريسا جاسيا» بطلة فيلم «الغرام القاسي» إخراج
الدر رازانوف
لا تبكي «يا لاريسا» ؛
عيناك الخضراوان لا تسمعان دمي صاهلاً في الجليد
أنا في خصلاتك البحرية: زورقاً
يرسل إشاراته
لساحرة انقلب عليها السحر
ماذا تريدين «يالايسا» أكثر من ذلك؟
أنت حاولت أنسنة العشاق من حولك– هذا صحيح– لكن
نهديك لم ينبثقا لكمين الشاعر
أنت عاندتني وغنيت للخبراء
فطرطشت الحقول بعيداً عن الفلاحين
هل كنت أعرف أن دود الفودكا ظل يصرخ في الموسيقى
حتى منعك الحاكم البورجوازي من التصوير
مع
نجمة
الغجر
فرقصت على إيقاع سماوات مراقة على أرضية
«الموكيت»؟
فاستحضار الشخصية يحوِّل القصيدة إلى مناجاة، بل اندماج الذات الشاعرة داخل الشخصية، وهنا يظهر النص وكأنه حوار مع «أريسا جاسيا» ويعد هذا واحداً من تقنيات القصيدة الحديثة التي لعبت دوراً بارزاً في تحقيق هذه الغاية؛ فهو بمثابة قصيدة تلقيها على أسماعنا شخصية أخرى، غير الكاتب نفسه، لكننا نتعرف صوته من خلال تلك الشخصية التي تتوحد مع الكاتب، ويتوحد معها، مجسدة في النهاية الموقف الدرامي.
copy short url   نسخ
23/01/2019
2205