+ A
A -
حسين عطوي كاتب لبناني
من الواضح أن احتجاجات السترات الصفراء المتواصلة بزخم في فرنسا إنما تعبر عن انتفاضة اجتماعية للشعب الفرنسي ضد سياسات الاضطهاد الاجتماعي والسطو على مكتسبات الطبقات العمالية والشعبية عموماً وضد العنجهية والاستعلاء والتشدد الذي يمارسه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون إزاء المطالب الشعبية.
وهو ما يعكس قوة الحراك الشعبي وحجم الغضب الذي ينتاب الفرنسيين عموماً، حيث تشير استطلاعات الرأي إلى أن ما يفوق الثمانين بالمائة يدعمون ويؤيدون ويساندون الاحتجاجات الأمر الذي يدلل على أن السلطة الحاكمة إنما تمثل أقلية ضئيلة هي شريحة الرأسماليين بكل منوعاتهم الذين جاؤوا بماكرون إلى قصر الإليزيه في غفلة من الشعب الفرنسي مستغلين إحباطه ويأسه من الأحزاب التقليدية التي توالت على الحكم وفشل سياساتها في الحفاظ على مكتسباته الاجتماعية..
على أن هذا التحرك الشعبي المستمر بزخم، يضع الرئيس الفرنسي ماكرون أمام ثلاثة احتمالات هي:
الاحتمال الأول: أن ينقلب على سياساته التي اعتمدها منذ وصوله إلى السلطة والتي تعبر عن مصالح الرأسمالية الريعية التي تقف وراء سياسات الانقلاب على دولة الرعاية الاجتماعية وإطلاق العنان لمشاريع خصخصة القطاع العام وتعديل النظام الضريبي لمصلحة الأثرياء عبر فرض المزيد من الضرائب غير المباشرة التي تحمل أصحاب الدخل المحدود العبء الضريبي الأكبر..
الاحتمال الثاني: أو يوافق على حل البرلمان وإقالة الحكومة والذهاب إلى إجراء انتخابات تشريعية جديدة بمثابة استفتاء جديد على سياساته يقرر الشعب الفرنسي من خلاله من يمثله فعلياً في البرلمان وبالتالي من يمثله في السلطة التنفيذية للتعبير عن مطالبه الاجتماعية العادلة..
الاحتمال الثالث: أما الاحتمال الثالث فهو أن يستمر الرئيس ماكرون في تصلبه ورفضه الاستجابة لمطالب الفرنسيين ويذهب إلى إعلان حالة الطوارئ والتصادم بقوة مع شعبه المنتفض، ويدفع الأمور إلى مرحلة من استعار المواجهة في الشارع مما يقود الأمور إلى مسارات لا يمكن من الآن التنبؤ بها لكن تأخذ فرنسا إلى مرحلة من الصراع الطبقي العنيف..
إن فرنسا تدفع اليوم ثمن السياسات الاستعمارية التي اعتمدتها حكوماتها المتعاقبة..
فهي واحدة من الدول الاستعمارية الغربية التي خسرت الحروب التي شنت في العديد من الدول في العالم، إن كان في العراق، أو أفغانستان، أو إفريقيا، أو ليبيا، وسوريا..
وبالتالي فإن فشل هذه الحروب وتكاليفها الباهظة وعدم تحقيق أهدافها الاقتصادية، إلى جانب طبعاً استعار المنافسة الاقتصادية في الأسواق العالمية.. وتراجع حصة فرنسا من الناتج العالمي.. كل ذلك أدى إلى تداعيات وارتدادات سلبية على الدول الرأسمالية الغربية، منها طبعاً فرنسا، بتفاقم أزماتها الاقتصادية والمالية لأنها دفعت تكاليف كبيرة في هذه الحروب من دون أن تجني منها أي مردود اقتصادي.. وهذا ما تحدث عنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب مؤخراً الذي قال، أنفقنا سبعه تريليونات من الدولارات على حروبنا في العراق وأفغانستان دون نتيجة.. والآن يضطر للانسحاب من سوريا لأن هناك «رمالا وموتا».. وبالتالي لا يستطيع الذهاب إلى الخوض في حرب جديدة مكلفة والغرق في حرب استنزاف كبيرة.. النظام الرأسمالي الفرنسي كما هو النظام الرأسمالي الأميركي خسر وفشل والآن الأزمة ترتد على الداخل الفرنسي كما على الداخل الأوروبي عموماً.. وبهذا المعنى نحن أمام أزمة عميقة وعنيفة تشهدها الدول الغربية وفي طليعتها فرنسا.. ولهذا فإن الحكومة الفرنسية أمام استحقاق داهم، فإما تخفض الأنفاق الذي يرهق الشعب الفرنسي للحفاظ على دور فرنسا الاستعماري في الخارج، بالتالي تتراجع عن فرض الضرائب العمياء، وتخفف الأعباء عن الشعب وتنتهج سياسات عادلة اجتماعياً، أو تأخذ فرنسا إلى المجهول..
هذا هو التحدي الذي يواجه الرئيس الفرنسي.. هل يتخلى ماكرون عن تبني سياسات الرأسمالية الريعية التي جاءت به إلى السلطة..وأدت إلى الانتفاضة الشعبية؟..إذا استمر في لعب هذا الدور فهذا يعني أن فرنسا ذاهبة إلى احتدام في الصراع الطبقي ومزيد من الاحتجاجات واتجاه الأمور نحو المواجهة العنيفة في الشارع وعندما يوُغل الرئيس الفرنسي في مواصلة سياسة التدخل في الخارج وإهمال الداخل وعدم الاستجابة لمطالب الشعب فأنه يفاقم الأزمة ويؤججها.
بقلم: حسين عطوي
copy short url   نسخ
12/01/2019
4048