+ A
A -
سليمان قبيلات كاتب أردني
في أعسر الظروف وأشدها حلكة، تشق الكلمة الذكية طريقها في حقل الألغام المكتظ بالموت، وتبلغ منتهاها وغايتها، على الرغم من الظلمة المطبقة في الأرجاء.
بهكذا طريقة بل وأعمق، وجد إنسان مجتمع القهر ضالته، في التعبير عن ذاته، فبلّغ رسائله، دون أن يقع في الانكشاف للرقابة.
بمثل هذه الفطنة غير المسبوقة، أبلغ الزير سالم ابن أخيه وأخواته عن مقتله، على يد خادمه، حتى ذهبت مثلاً «حامل قاطع راسه بيده».
تالياً، ابتدع الإنسان المبدع طرائق لا حصر لها في تبليغ ما يريد إلى الجهة التي يخاطبها، دون عناء يذكر، إذ إن التاريخ العربي يتحفنا بقصص عن هذه الطرائق الاستثنائية في الالتفاف على المنع والرقابة، حتى قيل «اعط القوس باريها» في إشارة لا تحتمل التأويل بأن كثيرين قد يمتلكون الأقواس، لكن قلة بل وندرة هي التي تجيد توجيه القوس إلى هدفه المحدد.
ومعروفة قصة شاعرنا الفحل الحطيئة الذي يعد من أشهر شعراء العرب في الهجاء، إذ دخل يوماً على الأمير الأموي سعيد بن العاص، وهو يولم في المدينة، وكان الشاعر الحطيئة يرتدي ثياباً رثةً، فأخذ يأكل بشراهة؛ وحين قامت الجموع عن طعامها، جلس الحطيئة فأتاه الحاجب ليخرجه، فامتنع الشاعر عن الاستجابة متحصناً بقوله:
أترغب بهم عن مجالستي؟ إني بنفسي عنهم لأرغب.
سمع سعيد بن العاص من الحطيئة قولته، فسأل حاجبه: دعه.
أخذ القوم في الحديث والسمر يتذاكرون الشعراء والشعر. ففاجأهم صاحب الثياب الرثة: أصبتم جيد الشعر، ولو أعطيتم القوس باريها لوقعتم على ما تريدون.
هنا، انتبه سعيد بن العاص لمطلق القول، فسأل: من أنت؟
عرف الحطيئة بنفسه، فرد سعيد: حياك الله يا أبا مليكة؛ ألا أعلمتنا بمكانك ولم تحملنا على الجهل بك فنضيع حقك ونبخسك قسطك.
بعدها أدناه وقرب مجلسه واستنشده ووصله. يقول الشاعر متمثلاً بهذا المثل:
يا باري القوس برياً ليس يحسنه... لا تظلم القوس أعط القوس باريها!
أمّا أدب السجون والمعتقلات فقد احتفل لا بل انه قام أصلاً على فكرة ومضمون تأويل القصدية في القول الذي قد يكون مباشراً وواضحاً بما لا يدع مجالاً للشك، لكنه في الحقيقة يحمل أغراضاً لا تلحظها القراءة السطحية التي تشيع عادة في أوساط سلطات القمع مهما تذاكت.
وقد قيل في أوساط الصحفيين العرب «إذا أردت التحدث عن بلدك بعمق وصراحة، فعليك استعراض أحوال بلد اجنبي، لئلا تقع في المحظور»!
على خيط دقيق جدا، يكتب الصحفيون والكتاب الحقيقيون كل أفكارهم، التي يوردونها على ألسنة متحدثين، اتقاء للوقوع في قبضة لا ترحم، وهو واقع الصحافة في البلدان المبتلاة بالقمع الذي يرتدي أحياناً أثواباً تزيغ النظر وتنفي عن السلطة القائمة صفة قمع الكلمة.
ويتغافل الاستبداد عن حقيقة انه يستحيل أن يفوز بثقة الناس والعالم المتحضر في السياسة والاقتصاد، بأسلحة قرون مضت، لكنه وعلى الرغم من ذلك يواصل التنكر للحقيقة، التي يدركها دهاقنته جيدا، إذ تثبت الوقائع أن طبيعة السلطة الظالمة لا تستمع إلا لصدى ذاتها!
فعلى مسامع العربي، لاتزال تتردد كلمات الديكتاتور التونسي «الآن فهمتكم» التي تفوح منها رائحة البلاهة باستجداء المحتجين، ووعي الناس الذين قمعهم عقوداً طويلة. إذ لا وقت للمستبد أن يفك القيد قليلاً عن الكلمة ورغيف الخبز، فهما عنده يجب أن يكونا طوع بنانه، وسوطاً يسوط ظهر الخلق به، أما عند الواقعة فإنه يظهر على حقيقته، تافهاً صغيراً ومكشوف العيوب.
لكن بندول الحدث التاريخي لا يرحم المستبد ونظامه الذي يقذف به في سلّة المهملات لتتنفس الكلمة الصعداء، فتعود إلى مباشرتها وفعلها السحري، فمهما كان فعل الكلمة قوياً تحت الاستبداد، فإنه لا يماثل في القوة تلك التي تكتب بكل الق الحرية!
copy short url   نسخ
11/01/2019
1198