+ A
A -
حين تحب مكاناً بعينه، وتشعر فيه بصفاء وسلام، لن يثنيك عن زيارته شيء، لا تفجير، ولا هجوم انتحاري أو أي عمل تخريبي سيجعلك تغير مخططاتك، قلبك يسبق عقلك في السفر إليه، وستجد الإجابة جاهزة على طرف لسانك على كل الأسئلة التي تزرع الشك في نفسك ورغبتك في زيارته رغم كل المخاطر، ثمة شعور بالأمان يفرضه التعلق بالمكان يصنع فارقاً بين ما تحسه وما يحسه أي مسافر عابر لذات المكان.
أثار قرار سفري إلى مدينة إسطنبول خلال إجازة العيد عاصفة من الاعتراضات، لا سيما بعد الهجوم على مطارها، رضخت لرغبة الأهل وقمت بإلغاء حجزي، شعرت بإحباط شديد بعدها، لأنني تركت لأصابع الإرهاب أن تمتد لروحي وتستلب منها الفرح والشعور بالأمان، لم أرتح ولم يهنأ لي بال إلا وأنا جالسة بعد عدة أيام في مقعد الطائرة أنتظر بلهفة هبوط الطائرة، لا أدري لم تذكرت رواية «المئوي الذي هبط من النافذة واختفى» للكاتب السويدي يوناس يوناسون، وتحكي عن رجل اسمه ألن كارلسون فرّ من مأوى العجزة يوم الاحتفال بعيد ميلاده المائة ليعيش أحداثاً لا يخطر ببال أحد أن يعيشها كهل في مثل عمره، إذ يرتكب بعد فراره من المأوى جريمة سرقة ويشارك في جرائم قتل متتابعة ويصبح له شركاء مطاردون ومطلوبون من العدالة كأفراد عصابة منظمة تشكل خطراً حقيقياً على المجتمع، وينتقل الكهل معهم من مدينة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر، الرواية صيغت بقالب كوميدي يجعل من الصعب على القارئ أن يدع الكتاب جانباً قبل أن ينهيه بمتعة لا توصف، إذ ينقلنا الكاتب من خلال سرد حكاية هذا العجوز إلى أحداث قرن من الزمان مرت على الإنسانية بكل ما فيها من حروب وويلات خلال الفترة من (1905-2005)، وقد وصفت صحيفة لو فيغارو الفرنسية هذه الرواية بأنها كوميديا ديناميتية.
نسيت المئوي وحروب العالم قديمها وحديثها وأهوال ما يحدث الآن في المنطقة من حروب وانقسامات وثورات بدأت بما يسمى الربيع العربي لنكتشف من تداعياتها أنها الخريف داهمنا فجأة ليقوض أحلامنا من أوسع الأبواب.
نسمات الهواء الباردة وزخات المطر الصيفي استقبلتني على باب مطار أتاتورك وبددت كل المخاوف والأسئلة التي بدأت تضايقني حين وجدت عدد القادمين معي إلى المدينة لا يتعدى أصابع اليد، شعرت لحظتها بانقباض قاومته بشراسة وقلت ربما يعود السبب للعيد، فالناس عادة لا يفضلون السفر أول أيام العيد، اكتريت أول سيارة وقفت بباب المطار لتنقلني إلى الفندق، السائق إسماعيل استقبلني بابتسامة ودودة قائلاً: بايرام مبارك رددتها وراءه مبتسمة وأنا واثقة بأنها تعني عيداً مباركاً باللغة التركية، كانت الطريق خالية من السيارات والناس، وقبل أن تبدأ وساوسي بطرح الأسئلة من جديد، أخبرني السائق وكأنه يقرأ أفكاري القلقة بأن الطريق سالكة من دون زحام وأن الناس يغادرون المدينة لقضاء إجازة العيد في المصايف على البحر، تاركين للسائحين الفرصة للاستمتاع بمدينتهم بعيداً عن الضجيج والزحام وأزمات المرور، تنفست الصعداء وأنا افتح زجاج النافذة لأعب من الهواء العليل قدراً كافياً من الأكسجين المغسول بماء المطر. كم أحب المدن التي توفر لي مساحة للمشي فيها لاكتشاف سحرها وكنوزها وخفاياها العصية على السائح العادي الذي يحرص على زيارة المعالم السياحية الجاهزة في كتيبات. وإسطنبول تشبه حسناء فاتنة لا تكشف عن محاسنها وأسرارها إلا لعاشق حقيقي متيم بها، ولأنني عاشقة حقيقية لهذه المدينة، فقد أمضيت فيها أياماً رائعةً لم أشعر كيف مرت بتلك السرعة، قضيتها في المشي والجلوس في مقاهٍ أمام زرقة بحرها، أنصتُّ لصوت نوارسها وثملت بأغاني متصوفيها وانتشيت بموسيقاهم ومقاماتهم التي تقطر حزنا وولها وعشقاً، رقصت مع النوارس وطفوت معهم على صفحة الماء ودرت افتراضياً مع دراويشها في رقصة «سما» غيبتني عن هذا العالم.. ركبت بحرها وتمددت على عشبها وغفوت تحت فيء أشجارها وتهت في أزقتها حتى تورمت قدماي ولم أشك من تعب، صليت في مساجدها، وحلقت مثل يمامة بيضاء حول مآذنها وبكيت مراراً خاشعة لصوت الأذان حين تخفت كل الأصوات فيها ويتردد اسم الله في سمائها.
ومع اقتراب موعد عودتي شعرت برغبة في تمديد إجازتي ليومين فقط لأكسب مزيداً من المتعة الروحية والصفاء النفسي، لم أكن أعرف أن الغيب قد كتب لي أن أشهد قبل انتهائهما أهم حدث وقع في تركيا لهذا العام لأعيش ساعات قلق لا توصف بالكلمات حابسة أنفاسي ليلة محاولة الانقلاب الفاشلة، تمنيت تلك الليلة أن تكون حجرتي في الفندق أقل ارتفاعاً إذ كانت في الطابق الواحد والثلاثين، لكي أهبط مثلما هبط المئوي من النافذة واختفي قبل أن تمر الإف 16 من أمامي وتلقي بحمولتها على أهداف لا تراها عيني تجفل من قوة انفجارها روحي..
وللحديث بقية.
copy short url   نسخ
27/07/2016
3821