+ A
A -
«الإنسان ليس وحيداً تماماً في العالم، في أسوأ الأحوال، هو في رفقة الصبي، الشاب، وتدريجياً الرجل الناضج، الذي كانهم سابقاً»
تشيزاري بافيزي
كانت تلك الصورة من أحب الصُوَر إلى قلبه.. إنّها صورته وهو يجلس في المقعد الأمامي بالقرب من والده في السيارة وقد وضع يديه على حافة النافذة وبينهما ذقنه الصغير الذي لم يسمح بروزه لاستدارة وجهه الطفولي الأسمر بالاكتمال.. كان يبلغ من العمر حينها ما بين التسعة أو العشرة أعوام.. عيناه تبدوان كبيرتين جداً هنا.. حذرتين.. متأملتين.. فيهما استجداءٌ بريءٌ للعطف والحنان..
ابتسم أبو خالد.. لم يكن يحب هذه الصورة التي التقطت له يومها لأنّها من أجمل صُوَره فحسب.. بل هي تُذكره بلحظات لا يستطيع أن ينساها مُطلقاً.. شيءٌ ما يعشقه فيها بشدة.. بالرغم من أنّ الزمن جعلها تبدو بلون الماضي العتيق جداً ذلك اللون المُصفَر الغريب الذي تنطلي به الصُوَر.. حتى الصور التي نحاول الاحتفاظ فيها باللحظات الزمنية المُبكرة من العمر.. تهرم وتبدو عليها آثار الزمن..!
لكن يكفي أنّها تُذكره بتلك المتعة التي يجدها في نفسه في ذلك الدرب الصباحي الجميل للمدرسة لأنّه كان درباً طويلاً مليئاً بالتفاصيل.. لتي تتكرر أمام عينيه يومياً الناس.. البنايات.. القديمة والجديدة.. كل شيء حاورته عيناه وألقى عليه سلاماً.. وسؤالاً.. ونظرةَ استحسان تارةً.. وتارةً أخرى استهجان.. كان يُطيلُ الصمت بينما بقية أخوته الذين يكبرونه في العمر مُسترسلين في الأحاديث الطويلة مع أبيه وقد اختلطت أصواتهم بصوت برنامج الصباح الإذاعي وبدا كأنه خلفية موسيقية تأثيرية مُلائمة جداً للمشهد..
هل تدري أنّ جميع تلك الأصوات كانت ما تلبث أن تختفي وتغدو كالهمس أو كالهمهمات البعيدة جداً.. حين ينفصل ذهنياً عنهم.. يثيرُ فضوله بائع الجرائد وهو يلوّح بإحدى الصُحف بينما ضمّ البقية بحرص إلى صدره.. يتخطى السيارات.. ثم يغيب.. ثُم يُناديه آخر من الجهة الأخرى..فيعاود الظهور مُجدداً.. وفي حركته تلك يبدو كالأخبار التي يحملها بين يديه ليقبض ثمنها.. تتلهف لسماعها فتتبعها.. فتنقطع تارةً ثُم ما تلبثُ أن تُذاع..!
يتذكرُ جارهم الطاعن في السن المُتَوَكئ على عصاه.. كان وجه الصباح الأول الذي يبادرهم بالتحية يومياً.. كان يردد في نفسه.. من المستحيل أن أكون يوماً ما مثله! لماذا رَضيَ أن يكون شيخاً كبيراً..؟ كيف يُطيق الابتعاد عن طفولته..؟ ثم يلتفت لوالده ويكرر ذات الأسئلة فتأتيه الأجوبة تباعاً..
ـ إنّها طبيعة الحياة.. ليس هنالك من يُولدُ كبيراً.. لقد كان طفلاً مثلك يوماً ما..
- ألم ترَ يا أبي جدي وهو طفل..؟
- لا لم أرَه.. كما لم ترني طفلاً إلا في الصُوَر.. لكن جدك لم يكن يملك صورةً له وهو طفلٌ صغير.. أغلب صوره القديمة كانت في شبابه فقط..
- أتمنى لو كنا جميعنا أطفالاً صغاراً.. أقصد أنت وجدي وجدتي وأمي..!
- أرواحنا لم تتفق على زمن واحد للمجيء لهذا العالم..!
- كيف؟
- ستعرف ذلك عندما تكبر وترى ذلك بنفسك...
لازال هذا الحوار يتردد في ذهنه منذ زمن طويل جداً.. لازال يذكره.. وتلك العبارة «أرواحنا... لم تتفق..على زمن واحد للمجيء لهذا العالم...»..
ولطالما أحسّ بالاستياء لأجل ذلك.. استياء طفل يجهل أشياء كثيرة.. ولن يعرفها حتى يكبُر.. وإنْ كَبُر لن يستطيع أنْ يجتازها عندما تحدث.. الأرواح لا تتفق متى ستتلاقى ومتى ستفترق.. بل في أي جسد ستحل.. أمير.. أم فقير.. جميل.. أم قبيح..؟! بل في أي بقعة من بقاع الأرض ستكون..؟! بأي لغة وأي دين.. وأي لون؟!
نظر إلى الصورة التي تُجاورها.. إنّها أهم الصُوَر.. صورة عائلية وبها تظهر الفوارق العُمرية بشكل أكثر وضوحاً.. وكانت وفقاً للترتيب التالي.. في الوسط يجلس على الكرسي والده ووالدته وبينهما يقفُ هو كان رأسه مُوازياً لكتفيهما.. أما حمد ويوسف فقد كانا واقفين خلفهما تماماً..
أمّا الآن فقد كَبُرَ الجميع.. وأصبح أثر الزمن محكوماً بالصحة والعناية لا بالطول وملامح الوجه كما كان الحال عندما كانوا صغاراً.. نَظَرَ لأخيه الأكبر حمد مُبتسماً.. حمد الذي بدا شاباً يناهز العشرين في الصورة.. أصبح جَداً.. واختفت تلك النظرة الشقية من عينيه.. كان يملك طباعاً حادة.. فتىً مشاكساً لأبعد مدى.. ولكن لله الحمد لم يستمر على نفس المنوال فخصاله تلك كانت تؤهله ليكون زعيم عصابة أو مُنحرفاً مُشرداً.. كما كان يتوجس والدي.. لذا أسرف في ضربه كثيراً إمعاناً في تهذيبه.. فقد كانت ثقافة الضرب التربوية رائجة في تلك الأيام...
لقد سمعت أخي هذا مرة وهو يوبخ أحد أبنائه الصغار لأنه ضرب شقيقه.. ويضرب له المثل بطفولته الهادئة.. لو يدري بما تحدثني نفسي به الآن.. وبما أذكره من أفعاله بالرغم من صغر سني حينها..!
أما يوسف الأخ الأوسط فقد كان أوسمهم.. فقد بدا بكامل أناقته بشعره الكثيف الناعم المنسدل على كتفيه.. أذكر أنني كنتُ كثيراً ما أخدمه عاطفياً.. فقد كنتُ مرسول الغرام.. الأمين النزيه.. ولكن ليس دائماً.. ففضول الأطفال على عالم من يفوقونهم سناً أمرٌ مُفرغ منه..! الغريب أنّه لا يسمح لأحد أبنائه أن يُسدل شعره كما كان يفعل هو سابقاً..!
يا لجمال بعض الذكريات.. ويالهول ذكرك لها لدى البعض.. فما يُضحكك فيها.. قد يُثير سَخَطَ الآخرين عليك...
قلّب الكثير من الوجوه في ألبوم الصُوَر.. وعند كل صورة كان يقفُ هنهية ليتذكر شيئاً ما حولها.. يتعلقُ بلحظة تصويرها.. أو بالشخص الذي كان يلتقطها.. وكل صورة من تلك الصُوَر.. تُمثل عمراً آخر.. ومكاناً آخر.. لكن الإنسان لحظتها يُدرك مكانه الذي هو فيه فقط.. أكثر من إدراكه لزمانه الذي يمضي به..
والدتي تعشقُ ألبوم الصُوَر هذا.. وقد أكثرت من صوري فيه.. كانت تهتم شديد الاهتمام بتصويري بمناسبة أو بدون مناسبة.. تُحبني كثيراً هذه الأم.. ليس لكوني ابنها الأصغر فقط.. ولا لفضيلة بي تميزني عن إخوتي حتى أكون صادقاً.. إنّما لشدة ما أحسّت بالمعاناة عند ولادتي وفرحها بنجاتي.. كانت تقولُ لي دائماً ليت أخاك التوأم لم يمت أثناء ولادتي...
لقد كان لي أخ توأم وتُوُفي.. جئنا معاً للحياة في نفس اللحظة.. ومن ذات الرحم.. لكن بالرغم من كل ذلك.. لم يُكتب لنا أن نلتقي.. أليس غريباً أن تكون لك نسخة أخرى من البشر..؟ كنتُ أحزن لأني أُشعرها بفقدها له.. ولأنه لو كان موجوداً فسيكون لحياتي مذاقٌ آخر.. لقد غدوت الآن أكبر منه سناً..!
تُرى لماذا لم تلتق أزمنتنا نحنُ أيضاً.. بالرغم من أننا حاولنا أن نجيء لهذا العالم بنفس اللحظة..؟ أليس الأمرُ مُحزناً ومُحيّراً جداً..؟!
بصعوبة بالغة استطعت أن أستعير منها هذا الألبوم.. إنّه كنزها الزمني النفيس فهو ألبومٌ قديمٌ جداً احتفظت فيه بأقدم الصور.. تصميمه والموسيقا التي كان يُصدرها سابقاً إذا ما فتحته.. والغلاف اللاصق الذي يحفظ الصور.. إنّهُ يحظى بعنايتها كما كنّا نحن تماماً في تلك الفترة..
في نهاية الألبوم كانت هناك صورةٌ كبيرةٌ لوالده وهو شاب.. يبدو شديد الشبه بحَمد.. لا أعلم لماذا يقسو بعض الآباء ويتشدد في تربية أكثر أبنائهم شبهاً بهم.. ولا أدري لماذا بعد رحيل والدي.. كلما تأملت صورته وأمعنت النظر في عينيه.. شعرتُ بأنهما تنظران لي بعمق.. وكأنه حديث بالنظر.. وكأنه يدري بكل ما يجري.. وبم أفكر به في اللحظة ذاتها.. لقد رحل حقاً وبقيت صورته إلى جانب العديد من الصُوَر..
بعض البشر تضن عليهم الحياة حتى بالصُوَر.. لا تحفظها لهم.. والبعض الآخر تبقى صُوَرهم.. ويغدون مُتحفاً تاريخياً تستعرضه الشعوب والبعض الآخر تبقى صورهم ولكن ما من أحد بقادر على التعرف على هويتهم.. ذهب زمانهم وولى بهم وبمن يعرفهم..
نظر مُجدداً لصورة والده..
ما الوقت الذي وهبني إياه الزمان مع والدي سوى لقاء قصير أقل ما يمكن وصفه بتلك المصافحة الزمنية السريعة في لقاء الأحياء العابر.. نحن مجرد لقطات كانت تسكنها الحياة.. وفي ألبوم الصور.. يتجاور الأحياء والأموات.. وينشأ بينهم وبين من يُقلب صورهم حوار النظر.. بينما هنالك نظرة واحدة ثابتة لهم في الصورة موجهةً نحوك لا تتغير.. وتعبير وجه ثابت.. يَنمُ عن القبول لكل ما يجول بخاطرك نحوهم..! في الصورة فقط...
أما صورتي المُتأملة تلك.. فأظن أنني سأنسخها وأجعلها بحجم أكبر ليراها أولادي.. شعر بشيء من النعاس.. ترك ألبوم الصور على أحد جوانب المكتب مفتوحاً على صورته.. وضمّ يديه إلى بعضهما البعض على المكتب ثم وضع رأسه.. وسرعان ما راح في إغفاءة عميقة...
مرّ ما يربو على نصف الساعة.. أيقظته يدٌ صغيرة تهزُّ كتفه.. حاول أن يفتح عينيه.. الصورة ضبابية أمامه.. هو ما بين عالمي اليقظة والنوم تتداخل لديه الرؤية الحقيقية بالحلم.. ويصعب عليه الإدراك هو في أي منهما.. لكنه يرى وجه طفل صغير يشبه ذاك الذي في الصورة.. إنّه ابنه خالد.. كم يشبهه..
- بابا.. بابا.. من هذا...؟ يشير ذو الخمس سنوات بإصبعه الصغيرة للصورة..
-إنّه أنت......!
copy short url   نسخ
23/09/2018
5006