+ A
A -
المتغيرات المحلية والدولية، ليحافظ على دوره الوظيفي في خدمة المشروع الغربي في المنطقة، وتعزيز نهبه لمقدرات الناس. صار هذا الفساد خبيرا بحجم جرعات التربية الوطنية للنشء التي تقوم أساسا على إغراق هذا الطيف البشري بموجات متلاحقة من الديماغوجيا التي تصير باروميترا لانتماء الإنسان إلى بلاده وإيمانه بها، ذلك أن الدولة والبلاد هنا، ترتبطان ارتباطا وثيقا بمفهوم الحكم الفاسد لهما.
فالدولة هي النظام والنظام هو الدولة، لتتحول المعادلة لاحقا إلى إسباغ معنى الوطن على النظام السياسي ورموزه الفاسدة. لقد قامت الدولة العربية الأوتوقراطية على فكرة الحاكم الذي لا يخطئ، والمقدس، والمختزل للدولة في شخصه، في تجل فاقع لاستمرار ثقافة القطيع في علاقة السلطة بالناس، وهو ما يبدو متناقضا مع التقدم وفكرة الدولة الحديثة أساسا! استثمر الاستبداد العربي طويلا ولا يزال يستثمر في هذه الثقافة المغرقة في الظلامية، مستخدما منتجات التقنية في تعزيز هذا الموروث الاستبدادي. المشكلة العابرة للتاريخ العربي، تكمن في أن هذا التقديس لا ينحسر مع تقدم الزمن بل يتعمق ويأخذ مديات أعمق وأخطر تسهم فيه نخب اجتماعية واسعة، ما سيزيد من تفاقم ظلامية المستقبل العربي. المشكلة التي تواجه المجتمعات العربية في أقطارنا أن توريث الثقافة الاستبدادية تبدو مهمة كل الفئات الاجتماعية على اختلاف مواقعها من الصراع الاجتماعي والطبقي. ساد حين من الدهر في كثير من البلدان الأوروبية، مفهوم أن التغيير للأفضل مرهون بتغير الحاكم الجاثم على العرش بالتوريث، فانتشرت بين العامة بفعل فاعل واعٍ مفاهيم «قيصر طيب» و«إمبراطور رحيم»، وذلك بقصد مقاومة أي منحى للتفكير بالخروج عن السلطة أيا كانت اوصافها ومسمياتها. يرادف هذه المفاهيم الأوروبية التي أصبحت من الذاكرة، توليد مفاهيم عربية لحرف الوعي عن أس البلاء، فأنتجت مطابخ نخب السلطة العربية الاستبدادية مفهوم «الحاكم الذي لا يعلم»، بمظالم الملايين التي ترزح في الفقر واغتيال إنسانيتها وآدميتها. وبذا، أحكم الاستبداد العربي قبضته على الوعي، مؤثرا على الثقافة الجمعية عبر حقنها بجرعات من وعي التسليم بما يوصف بالقدر المحتوم على العرب، الذين لا مفر لهم إلا من الاستبداد إلا إليه. والاستبداد هنا، يتسع كثيرا وتطاول مروحته، كل البنى الفكرية القائمة على إنكار انتماء العربي إلى الإنسانية في مسعاها الدؤوب للحرية المطلقة. نخب عربية وأسماء فاقعة في السياسة العربية، تخرجت في جامعات عريقة في الغرب والشرق، وتعي مدى البؤس العربي وارتهانه الأبدي تسهم في إغراقه وإحجامه عن حل سؤال السلطة في الفكر والممارسة العيانية. لا تتقدم أمة دون أن تتصدى لحل المعضلات الرئيسية في تاريخها وموروثها الفكري، الذي يقوم على أسطرة أنموذج السلطة الأبوي، لكن هذا يتباين بين أمة وأخرى، تبعا لأيديولوجية القوى المحركة للثورة الاجتماعية في لحظتها التاريخية. هذا، ما لم تشهده الأمة العربية في جميع أقطارها، وهو رهن تحولات عميقة في البعدين الاقتصادي والاجتماعي، اللذين يعدان مرآة حقيقية تعكس نبض الأمة أو الشعب في مرحلة التحولات الكبرى. لم يدر في خلد عبدالرحمن الكواكبي أنه كان يقرأ في كتاب المستقبل وهو يكتب في مؤلفه «طبائع الاستبداد»، أن هؤلاء الواهنة، ويقصد الجمع العربي، مستلبون في البعد التاريخي:
أناشدكم يا ناشئة الأوطان، أن تعذروا هؤلاء الواهنة الخائرة قواهم إلا في ألسنتهم، المعطل عملهم إلا في التثبيط، الذين اجتمع فيهم داء الاستبداد والتواكل فجعلاهما آلة تدار ولا تدير. وأسألكم عفوهم من العتاب والملام، لأنهم مرضى مبتلون، مثقلون بالقيود، ملجمون بالحديد، يقضون حياة خير ما فيها أنهم آباؤكم!
على أن الكواكبي وهو يكتب مخاطبا الجيل الجديد، لم يكن يحزر أن أجيالا عديدة ستمر على المشهد العربي تعد تكرارا لآبائها الذين لم تتسربل أجيالهم إلا بالهزيمة ومفرداتها!
copy short url   نسخ
14/09/2018
1205