+ A
A -
نطق القاضي المصري بالحكم، فأعاد قتل من قُتلوا برصاص رجال الأمن يومذاك، حين كانوا يشاركون في اعتصام سلمي في ميدان رابعة العدوية قبل خمسة أعوام، وأرسل من بقوا أحياء منهم إلى حبال المشانق أو السجن المؤبد. القاتل حرٌّ طليقٌ، بل مظلومٌ تستوجب دماؤه التي لا تزال تسري في عروقه الانتقام، بإرسال ضحاياه إلى الموت المادي أو المعنوي. لا همّ. سيسيل بعض الحبر على الورق، وستطلق منظماتٌ، مثل هيومان رايتس ووتش، البيانات استنكارا، وقد تصدر مواقف رسمية من هنا أو هناك، ثم تعود الأمور إلى سابق مجراها. قد تعلّق المشانق أو لا تعلق. المحكوم عليهم منسيّون صنفوا في لغة المجتمع الدولي «إرهابيين». هل يحتاج هؤلاء إلى محاكماتٍ عادلةٍ، حتى عندما تتم محاكمتهم بوصفهم ضحايا؟ قد تكون عملية الفض الدموية لاعتصامي ميداني رابعة العدوية والنهضة في القاهرة في أغسطس 2013، والتي راح ضحيتها حوالي ألف شخص، من أقل المجازر جاذبية للإعلام، على الرغم من أنه لا لبس في هوية القاتل ودوافعه، ولا في سلمية الضحايا وعدم تشكيلهم أي خطرٍ يستدعي استخدام القوة المفرطة. مثل ضحايا عمليات القتل الممنهج في الريف السوري على يد نظام الأسد، لا يثير ضحايا مجزرة رابعة أي تعاطفٍ يستحق الذكر في الإعلام والسياسة الدوليين، باعتبار أن الضحايا الموصومين بالإرهاب أو التطرّف الإسلامي مادّة جديرة بالتصفية، ولو كان في ذلك انتهاكٌ فاضحٌ لحقوق الإنسان التي يتشدّق بها بعض النخبة على مقاييس متباينة أو متضاربة.
أعدّ الإعلام المصري الرأي العام لتقبل بشاعة المجزرة عبر ترويج رواياتٍ خرافيةٍ، منها مثلا مقولة عمليات قتل منظمة، قام بها الإخوان المسلمون ضد مؤيديهم، ودفن جثثهم المحترقة تحت ميدان الاعتصام. نجح التليفزيون المصري الرسمي يوم الفض في الحصول على صورة رجلٍ قدّم على أنه متظاهر يحمل سلاحا لترويج أن المعتصمين مجرمون خطرون. استخدمت صور عمليات حرق كنائس لإثبات الجريمة، في حين كان المجرمون الافتراضيون محاصرين في الميدان.
أظهر تحقيقٌ مفصّل أجرته «هيومان رايتس ووتش» أن عملية الفضّ الدموية كانت محضرة بإتقان، ونفذت بحذافيرها من دون عنصر مفاجأة أو مقاومة. مضت أعوامٌ على الحدث، قبل أن تدخل صفاتٌ، مثل «دموية» أو «مجزرة»، إلى خطاب عدد محدود جدا من وسائل الإعلام المصرية. لم يحظ الضحايا بأي تغطيةٍ إعلامية في الإعلام العالمي. دخلوا منطقة العتمة، وبقوا فيها منسيين، إلى أن أصدر القاضي حكمه بالإعدام في حق أي أملٍ بعدالةٍ ما.
مثل ضحايا ميدان رابعة العدوية، يغرق ضحايا البراميل المتفجرة وعمليات القتل والتعذيب الممنهج في سوريا في عتمة النسيان أو الإنكار. بات تناولهم في الإعلام نادرا في ما يتعدّى تحليل التبعات الاستراتيجية لقتلهم. وصمهم بمساندة الإرهاب، أو التطرّف الإسلامي، يجعل منهم خطرا قائما يستوجب، أو على الأقل يبرّر، تصفيتهم.
=يتبع=
copy short url   نسخ
12/09/2018
759