+ A
A -
تذكر الكاتبة «لارا فيجل»، الناقدة الأدبية، والمؤرخة الثقافية، التي تدرِّس بكلية كينجز لندن، في التقرير الذي نشرته صحيفة «الغارديان» البريطانية عاملاً آخر تسبب في عدم تبرير أو تقبُّل تناقض الأمومة، متمثلًا في اكتشاف التلقيح الصناعي خارج الرحم، والمعاناة البدنية والتكلفة المالية التي ترغب النساء في تحمُّلها مقابل إنجاب طفل، فبعد الاستعداد لدفع كلّ تلك التكلفة مقابل أن تصبح المرأة أماً، يصبح من الصّعب الاعتراف بالتناقض، أو أيّ شيء يخالف مشاعر الامتنان لمعجزة خلق روح جديدة، إلا أن راشيل راجعت إحدى المذكرات حول التلقيح الصناعي، واستاءت من أن المرأة التي وثّقت تجربة عقمها تعتبر معضلة «التناقض الأمومي» رفاهية بشعة؛ ما يعني أنها بطريقة ما «تعكس اتجاه تطور الخطاب المعاصر حول الأمومة».
تذكر الكاتبة تجربتها باعتبارها واحدة من النساء اللاتي عانين مع محاولات الإنجاب والتلقيح الصناعي، لديها ابنة تبلغ من العمر أربعة أشهر، ولدتها بعد محاولاتٍ مضنية للحمل طوال ثلاث سنوات، محاولاتٍ تصفها بأنها «كُلِّلت أخيراً بنجاح التلقيح الصناعي». وتردف قائلة: «منذ ولادتها، كَتبتُ بعض المواد الصحفية وهي بجانبي، ابنتي سعيدة وطفلة سهلة المعشر، وأنا أمٌّ سعيدة وسهلة المعشر أيضاً، واستمتعتُ بصحبتها كلّ صباح، حين نتعايش أنا وطفلتي بصحبة قصة أطفال، وحاسبي الشخصي معاً على سريري»، إلا أنَّها تقول: «عندما حان الوقت لكتابة تقرير يتناول «التناقض الأمومي» لم أستطع كتابته، اكتشفت أنه من الصعب كتابته، بينما هي جالسةٌ أمامي ضاحكة مستبشرة تتوق لبعض الاهتمام مني»، فما كان منها، إلا أن طلبت من مربيتها أن تأتي للمساعدة، ومع ذلك ظلت تتقطع كتابتها من أجل تلبية حاجات طفلتها، فعلى سبيل المثال تقول: «ابنتي ليست على استعدادٍ مثلي لقبول فكرة أنه من المنطقي اللجوء لحليب التغذية المعبأ في زجاجات أحياناً».
وتقول الكاتبة: إنه على الرغم من أنّ كل ذلك قد يبدو عبثيّاً، إلا أنَّه ضروريّ، الآن ومع استقرارها في حالة «أمّ طفلٍ حديث الولادة» التي وصفتها دوريس وراشيل جيداً، تقول: إنها تشعر بالامتنان لأجل طفلتها، «تلك المعجزة التي تكوّنت ونمت داخل رحمي»، وتردف قائلةً «لم أشعر على الإطلاق بالتناقض حتى الآن»، ولأنَّها تعرفُ مدى قِصر مرحلة الأمومة المبكرة، فهي لا تستاء من الاستيقاظ في منتصف الليل لإطعام طفلتها، وتعلمُ أنّها ستعودُ للعمل بعد قرابة ستَّة أشهر، وتحاول قدر استطاعتها الاستمتاع بوقتها مع طفلتها حتَّى ذلك الحين، إلا أنها تقول: إن الكتابة حول تناقض الأمومة لا يعني بالضرورة أنها تعتبرها «ترفٌ بشع»، وتضيف: «أعلم أن تلك الحالة لن تستمر للأبد، وأعرفُ أن هذه الشهور المليئة ببهجة التنعُّم في شمِّ رائحة صغيرتي، وتبادل اللمسات الرقيقة، ستتبدَّل لعلاقةٍ اجتماعيةٍ لاحقًا، على الأرجح سأسأم فيها من ساعات الجدال الطويلة مع طفلةٍ دارجة، وحينها أعلم أنني سأحتاج مجدداً لاستعادة حريتي»، فبعد ابتعادها عن طفلتها بضع ساعات لتتفرغ لكتابة هذا التقرير، تدبَّرت قليلًا في تناقض الأمومة، مستنتجة أنَّه «مزيجٌ من الفرح والحب والملل والغضب» وأن اعترافها بتناقض الأمومة، لا يعني بالضرورة اعترافها بفقدان الحب والعاطفة.
وتستكمل رحلتها مع دوريس، فتقول إنَّها بمجرد أن بدأت القراءة عن دوريس، والكتابة عنها وعن الأمومة، وجدت أنها بحاجة للتأكيد على «الأنانية المتضمّنة» في رحلاتها بعيداً عن ابنها ذي الست سنوات، فتلك الرحلات على الرغم من حيويتها لإنهاء الكتاب في موعده، إلا أنَّها عملياً كان من الممكن تجنُّبها تماماً؛ إذ تعلّمت الكثير من النساء الكتابة خلال يومهن بصحبة أطفالهن، لكنها استنتجت أهمية مختلفة لرحلاتها وحدها بعيداً عن طفلها: «كانت ضرورية لي على المستوى الوجودي، كانت تلك الرحلات عبارة عن أسابيع احتجتها لاستعادةِ قدرٍ من الأنانية التي تمتَّعت بها من قبل من أجل أن أكتب، أسابيع احتجت أن يكون ابني بعيداً عن بالي، كما هو بعيد عن عيني».
إلا أنَّ التخلَّى عن الأسرة بهدف الكتابة تعدُّ قضيةً أخرى، تذكر الكاتبة أن «جيف ديير»– كاتب إنجليزي، وله عدة روايات خيالية– انتقد مؤخراً الكتاب الذين يدَّعون اضطرارهم للتضحية بحياتهم الأسرية من أجل «مهنة الكتابة السامية»، مدعياً أن «الكتابة وسيلة لشغل الوقت، ومثلها مثل أي عملٍ آخر، مُجلبة للمال»، تتَّفق معه الكاتبة إلى حدٍ ما، معقبة أنه استبعد صفات الأنانية والتفرُّد وعدم الولاء الضروري توافرها في الكاتب، فضلاً عن استبعاده طريقة مراقبة الكاتب لنفسه دائماً، ولمن حوله، ومن يحبهم، من الخارج، وفي نفس الوقت تفاعله معهم، وتضيف أنَّ بعض الكتَّاب– مثل دوريس– لديهم حياة، حيث تصبح مثل تلك النزعات مستحيلة.
تقول الكاتبة إنها على الرغم من كل الظروف المحيطة بها، مرت بلحظات بهجة الأمومة المبكرة، وكذلك أثناء شهور الإرضاع، ومرت أيضاً بلحظات انتقدت فيها دوريس على هجرها أطفالها، فبهجرهم لم يَسهُل فهم السبب الدافع، لكنها من ناحية أخرى أوضحت تماماً كم دفعت كلفة الشعور بالذنب، على الرغم من أنها في بعض الأحيان رفضت تحمُّل الذنب، وهو ما تجسِّده المشاهد المعروضة في كتاب «زواج ملائم»، والتي تعرض حالة أكثر تعقيداً من تلك التي اعترفت بها في سيرتها.
وتتعرض الكاتبة لإحدى الروايات الخيالية الحديثة في القرن الحادي والعشرين، والتي صوَّرت أيضًا هجر الأمهات لأبنائها، رواية «الابنة المفقودة» (THE LOST DAUGHTER)، كتبتها «إيلينا فيرانتي» عام 2006، جدير بالذكر أنها نشرت بعد بضع سنوات من نشر راشيل مذكراتها، لكنَّ الرواية لم تلاقِ نفس الهجوم كمذكرات «كيوسك»، ترجِّح الكاتبة السبب قائلة «ربما لأنَّها أقل «وحشية»، وربما لأن الخيال هو تمثيلٌ لأدوار، وليس وصفاً للتناقض»، تحكي الرواية حكاية «ليدا» امرأة لفظتها أمها، هجرت ابنتيها صغاراً، ثم صادفت أمّاً في ربيع عمرها على الشاطئ تدعى «نينا»، سألتها الأخيرة عن سبب هجرها ابنتيها، فقالت «أحياناً يجب أن تهربي حتى لا تموتي»، تقول الكاتبة: «يبدو أنَّها أحبت فتاتيها كثيراً لدرجة منعتها من أن تكون نفسها»، إلا أنَّ هذه الخطيئة كانت مؤقَّتة؛ إذ عادت إليهما مجدداً، بعد أن أدركت أنها صارت «عديمة الفائدة وبائسة» بدون صغيرتيها، وأثناء حديثهما تسرق «ليدا» دمية طفلة «نينا»، وتشرد بذهنها متخيّلة أنَّها تلاعب ابنتها الصغرى، صورة لم يتواجد فيها سوى الأم والطفلة والدمية، فينتابها خوفٌ غير مبرر من الهجر والهجران، فتقول: «أنا لست أماً طبيعية».
تختتم الكاتبة تقريرها مؤكدةً على أنَّها بعد رحلة تفكير مطوّلة في دوريس، وجدت أنَّ مصطلح «الحرية» كان يعني «الأقل فالأقل»، لاسيما في سياق الأمومة، فقد نالت دوريس قدراً ضئيلاً من الحرية، سواء في وجود أطفالها أو بدونهم، وبنفس درجة الإكراه والاضطرار في تركهم، عانت من فرط حمايتها لطفلها الثالث الذي رُزقت به لاحقًا.
وتقول الكاتبة إنها توصلت لاستنتاجٍ يتلخَّص في أنها باتت تعتبر كلًا من دوريس، وإيلينا وراشيل كنّ غاضباتٍ من حياتهنّ الأسرية، بقدر غضبهنَّ من الأمومة، علاوةً على غضبهنَّ من نموذج «التدجين» الذي يتيح قدراً ضئيلاً من القُرب دون الألفة؛ ما قد يسبب أحياناً الشعور «بالمغالاة» الثقافية، سواء في حالة دوريس في منتصف القرن العشرين، أو إيلينا وراشيل في القرن الحالي، وربما لم تختلف معضلتهنَّ كثيراً عن مشكلة «مستر رابيت» في رواية «أوبديك»، لكنّ سيرة دوريس تخبرنا أنها بالتأكيد استمتعت بأمومتها مع طفلها الثالث؛ لأنها تحرَّرت من إطار الزواج، فلم تشبه طبيعة الأسر في الطبقة المتوسطة.
فمن خلال قراءتها لأدب القرن الماضي، والفرصة التي خلقتها دوريس لنفسها كي تكتب عن تجربتها، صارت تعتقد الكاتبة أننا أشبه بـ«الوحدات التاريخية» التي تعبِّرُ عن عصرها– مثلما كانت دوريس– وأضافت أيضاً أنَّها أدركت استحالة أن يصل جيلٌ ما للحقيقة كاملة، وبالتالي فإن توجيه النقد لدوريس ولوم أمومتها لا طائل منه؛ فالأهم من ذلك هو نجاحها في الكتابة بانفتاحٍ، وبطريقةٍ مؤلمة حول الأواصر الفريدة الغريبة تارةً، وحول التحرُّر تارة، وحول العلاقة بين الأمهات والأطفال، سواء في وجود الأم أم غيابها تارة أخرى، لاسيَّما أن الكتابة نفسها أمدّتها بنوعٍ من التحرر.
copy short url   نسخ
10/09/2018
1833