+ A
A -
الوطن- وكالات






في التقرير الذي نشرته صحيفة «الغارديان» البريطانية، تواصل الكاتبة «لارا فيجل»، الناقدة الأدبية، والمؤرخة الثقافية، التي تدرِّس بكلية كينجز لندن، في موضوع مأزق الأمومة والكتابة، قائلةً: تتمثل إحدى تلك الحالات والمشاعر المتضاربة المرتبكة في تساؤلها: «هل أحبها؟»، إلا أنها تدرك أنّ الحبّ يتلاشى بمجرَّد بحثها الحثيث عنه، ولا يذر سوى رابط المسؤولية، ثم تلتفت إليها كارولينا «بابتسامةٍ دافئة ملؤها الثقة»، فيخفق قلب «مارثا» «لينًا من شدة رقتها». تقول الكاتبة: إنّ تلك المشاعر المتناقضة ليست بسيطة؛ فالحبُّ يولِّد رغبة في فرط حماية المحبوب؛ ما يخلق احتمالية أن «كارولينا» ستكرهها يومًا ما بسبب تلك الحماية المفرطة، إلا أنّ – من ناحيةٍ أخرى – فكرة تَولُّد كره بينها وبين كارولينا بدت عبثية.
ما مرَّت به «مارثا» في رواية دوريس يعرف الآن بـ«تناقض الأمومة»، بعد فترةٍ وجيزة من هجرها طفليها، أعلن «دونالد وينيكوت» – محلل نفسي – مؤكداً مناصرته لما يعرف بـ«الأم الجيدة بدرجةٍ كافية»، في مقالٍ له بعنوان «الكراهية في مكافحة التحوُّل»، أنَّه «على الرغم من كره الأمّ لطفلها منذ لحظة النطق بكلمة (أطلقي)» التي ينادي بها المسعفون أثناء الولادة لتحفيز الأم على الدفع بالطفل خارج رحمها، تتفاقم حدَّة شخصية الأم في نظره جرَّاء متطلّبات الطفل الرضيع الغارق في غفلةٍ عن كمّ تضحياتها، «لاسيما أنَّ هذا الطفل لا يسمح لها حتى بالكُره»، فيقول: إنّ كراهيتها هي مكوِّن طبيعي لحبِّها غير المشروط في البداية، واختبار لقوة أمومتها، محتَّم عليها تقبُّل كراهيتها لطفلها، دون السماح لتلك الكراهية بالتأثير على أفعالها، فكان هذا التقبُّل والتسامح نصراً مكَّن له الحب.
لم يكن منطق «وينيكوت» معتاداً في نقاشات الأربعينات للأمومة، بيد أنه في الوقت الذي جلدت دوريس نفسها؛ لأنها أمٌّ سيئة، كانت هناك نماذج أدبية تعبِّر عن الأمومة المتناقضة، على سبيل المثال: مُجِّدَت شخصية «مسز رامزي» في رواية «فيرجينيا وولف»، بعنوان: «إلى المنارة» (TO THE LIGHTHOUSE)، باعتبارها نموذجاً أصلياً للأمومة، لكنها تتنفس الصعداء عند نوم أطفالها؛ إذ لم تعد مضطرة للتفكير في شخصٍ آخر سوى نفسها، يمكنها حينها فقط أن تصبح نفسها، مع نفسها، تفكر في نفسها وحدها، فكل ما كانت تحتاجه هو التفكير، لاسيما الصمت.
علاوة على ذلك، يخبرنا «ديفيد هربرت لورنس» حكاية «مسز موريل»: الأمّ الُمحبَّة لدرجة الهوس في رواية «أبناء وعشَّاق» (SONS AND LOVERS)، والتي انتابتها رهبةٌ من جنينها كما لو كان كارثة محدقة قبيل ولادته، في البداية بدأت تشعر بأن نظراته إليها كالعبء الملقى على قلبها، فوصف «لورنس» لحالتها بعد هذا الخوف من جنينها، وعدم رغبتها في إنجابه، ربما أثر في دوريس، إذ فجعت «مسز موريل» عندما حملت مولودها، وضمَّته إلى صدرها؛ لشعورها كما لو أن «حبل طفلها السرى الذي ربط جسمه الصغير الرقيق بها ما يزال مرتبطا بها، لم يُقطع بعد»، ثم تدفقت إلى قلبها نوباتٌ من «الحب المتقد»، فتقرر محبته أكثر تكفيرًا عن عدم رغبتها فيه من الأساس.
على الرغم من أن رواية «أبناء وعشاق» كتبها «لورنس» في بداية القرن العشرين، تقول الكاتبة: إن فكرة التناقض الأمومي لم تصبح مقبولة علنًا، إلا في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، كتبت الشاعرة «أدريان ريتش» في كتابها بعنوان «ولادة امرأة» (OF WOMAN BORN): «أبنائي يتسبَّبون في أروع معاناة اختبرتها يومًا»، ألا وهي «معاناة التناقض، والاختلاف القاتل بين الاستياء المرير، وبين دوامة التوتر التي لا تفني، وحتمية هذا الحب المبطَّن بالمعاناة».
تعتبر «ريتش» هذا التقلُّب بين مشاعر الألم والمتعة والإحباطات والإنجاز والوفاء، نتيجة لـ«السلطة الذكورية»، والتي تقسِّم النساء إلى صالحة وطالحة، خيرة وشريرة، ولود أو عقيم، ما يخلق توقُّعاتٍ مروِّعة للأمهات. وتعتقد الكاتبة أن الأمر ببساطة يتمثل في أن ذاك الحبل السُّري الذي شعرت «مسز موريل» كما لو أنه مازال يربطها بطفلها، وكذلك «مسز مارثا»، ليس مجرد نتاج اللحظة، بل ينمُّ عن تاريخ ذي معايير مختلفة تمامًا للحبّ الأمومي والأبوي، فعلى سبيل المثال: لم يصوِّر التاريخ ولا الأدب أيًا من الآباء الذين هجروا أطفالهم، مثل: «أوغسطس جون»، و«جون رودكر» (الناشر والشاعر الحداثي)، و«لوسيان فرويد» على أنهم وحوشٍ، وكذلك لم تصوِّرهم القصص الخيالية أنهم مبتلُّون بالشعور بالذنب.
نشرت رواية لـ«جون أوبديك» بعنوان «هروب رابيت» (RABBIT، RUN) عام 1960 – أي بعد ستّ سنوات من نشر كتاب «زواج ملائم»، تصف رواية «جون» قصَّة أبٍ يهجر زوجته وابنه في ملابساتٍ قد تكون مشابهة، إلا أنَّ هروبه من المنزل لم يلاقِ سوى معارضة ضئيلة نسبيًا لقطعه صلته بطفله؛ فلوهلة يفتقد «مستر رابيت» «طفله واحتياجاته الشريرة»، لكنه قانع بإحساس «الحرية» التي يشبِّهها بالأكسجين، وعلى الرغم من أن عواقب أفعاله كارثية، كان شاغله الأكبر مشاكل العمل، لذا لم تكن قدرته على الحب الأبوي المشكلة الرئيسة؛ إذ كان ممزقًا على نحو مأسوي بين حاجته للشعور بإشباع وتحقيق الذات، وبين حاجته للوفاء بدوره في المجتمع، والذي يشمل تبوء مكانة ما في عائلته.
تقول الكاتبة إنه بحلول السبعينيات، أصبح من السهل أن تتحدَّث النساء عن تلك المعضلة، تقول «جايين لازار» في تقرير كتبته عام 1976 حول رعايتها لابنها، بعنوان: «عُقدة الأمّ» (THE MOTHER KNOT): إنَّ «الأمر الوحيد الذي يبدو أبديًا وطبيعيًا في الأمومة هو التناقض»، وإن كانت دوريس تُمجَّد باعتبارها نموذجًا يحتذى به في الحركة النسوية التحررية للمرأة، فهو بفضل مشاعرها المتناقضة حول الأمومة إلى حدٍ ما، فالمساواة بين الجنسين كانت تنطوي على المساواة بين المرأة والرجل بشكل أساسي في العلاقات الاجتماعية مع أبنائهم، بحيث يتسنَّى قطع الحبل الخفي الذي يربط الأم بابنها أو بنتها مدى الحياة، وتؤكد أن الحركة النسوية حال لم تتمكن من تحقيق ذلك، فإن التناقض الناتج يحتاج لمناقشة علنية مفتوحة.
وبعد قراءة الكاتبة لكل تلك المآخذ والمواقف التاريخية في القرن الواحد والعشرين، تقول: «ساورني المزيد من القلق حول مدى صعوبة الأمر الآن للاعتراف بهذا التناقض، عما كان الوضع عليه منذ أربعين عامًا». تذكر أن في عام 2001، نشرت «راشيل كيوسك» – روائية كندية تعيش في بريطانيا – سيرتها الذاتية بعنوان: «عمل حياة» (A LIFE’S WORK)، تعبر فيه عن رؤيتها للتناقضات العسيرة للأمومة المبكرة، فالكتاب يعبِّر عن الحب والخوف على السواء، ويركز بالأساس على استكشاف الطريقة التي صارت بها راشيل أمًا، والتي جعلتها تشعر كأنها «طفلة وأمّ في نفس الوقت»، وكذلك شعورها أنها «أشد استقامة وأكثر فظاعة وسوءًا» في نفس الوقت أيضًا. كتبت راشيل أنَّ ولادة المرأة تُغيِّر فهم المرأة لحقيقة وجودها بشكلٍ جذري، فهناك شخصٌ آخر خلق داخلها، وبعد الولادة يستوطنون داخل حدود إدراكها الواعي، فعندما تكون معهم لا تكون نفسها، وعندما تغيب عنهم لا تكون نفسها أيضًا، لذا فإن هجر الأطفال صعبٌ بقدر صعوبة البقاء معهم.
تعتقد الكاتبة أن تلك الفكرة لا تختلف في تطرفها عن المشاعر التي عبرت عنها دوريس، أو بالأحرى التي عبرت عنها «ريتش». فلماذا إذًا تعرضت راشيل للتشهير والنقد اللاذع بعد نشر كتابها. تقول «لارا»: إن هناك أسبابًا عدة أدت إلى ذلك الهجوم على راشيل؛ إذ تغيَّر الموقف تجاه مكان الطفل في الأسرة، من خلال المرور على منشورات منتديات الأمهات على شبكة الإنترنت يبدو جليًّا أنَّ هناك انتشارًا واسعًا لفكرة أنّ «حاجات الأطفال دائمًا مقدَّمة على حاجات الآباء والأمهات وسط الطبقة المتوسطة البريطانية»، فضلًا عن أدوار الرجال الجدد، فبعد أن بدأ الرجال الآن يشاركون في تغيير (حفاظات أطفالهم)، وإطعام الرُضَّع ليلًا، لا ينبغي أن تشعر النساء بهذا التناقض، فتقول الكاتبة: «كان الوضع أشبه بذلك في منزلها؛ حيث الخطاب حول المساواة في الأسرة، وحيث تبدو الشكوى من الحبل السُّري الخفي في غير محلها».
copy short url   نسخ
09/09/2018
1963