+ A
A -
بقلم - إبراهيم علي المطوع


أسماء عديدة شهدتها الساحة الغنائية القطرية، وكان لها الأثر في إثراء هذه الساحة، من هذه الأسماء من استمر في ساحة الغناء باذلاً وقته وجهده.. أملاً في التواجد على خريطة الساحة الغنائية، ومنها من تحول إلى ساحة فنية أخرى، ربما كانت أفضل أو أسهل لتواصل عطائها ومشوارها الفني.. وأخرى فضلت اعتزال الساحة الغنائية بمجملها، لأنها ما عادت تصلح لها أو تصلح هي لها، لأسباب متعددة فآثرت الاعتزال والابتعاد طوعاً دون صخب.
الفنان الكبير محمد رشيد صاحب الصوت الرخيم المتميز بالشجن والوقار وملاحة النغم.. صوت له بصمة صوتية مميزة منها الله تعالى عليه.. وبرغم كل النجاحات التي حققها، إلا أنه أعتزل الساحة الغنائية في منتصف مشواره الفني وهو في قمة تألقه وعطائه الفني، في وقت كان الكثيرون يتوقعون أن يتبوأ ويعتلي مكانة مرموقة على المستوى العربي، بما يمتلكه من خامة صوتية قوية متميزة.
الساحة الغنائية
قرار محمد رشيد مغادرة الساحة الغنائية دون ذكر الأسباب وبشكل غير معلن.. فتح الباب أمام مسألة التخمين والظن حول قرار الاعتزال، ومهما كانت الأسباب التي أدت إلى اعتزال الفنان محمد رشيد وانزوائه عن الساحة الغنائية، سواء كان ذلك بسبب الإهمال وعدم تقدير جهده وعطائه الفني المتميز للأغنية القطرية- كما رأه البعض- أو عدم توائم معطيات الساحة الفنية الغنائية مع مستوى موهبته، وتطلعاته وطموحاته كفنان موهوب.. كما يرى آخرون.. إلا أن الشيء المؤكد هو خسارة الساحة الغنائية عطاء هذا الفنان الكبير.. فنان كان تواجده سيثري الساحة الغنائية بأعمال نادرة ضخمة، كتلك التي قدمها خلال مسيرته الغنائية، واتسمت بأصالتها وعلو قيمتها الفنية، سواء في اللون الشعبي المحلي أو اللون الطربي العربي.
موهبة رشيد
ما أعرفه عن الفنان محمد رشيد أنه موهوب بالفطرة، نمى مهاراته الفنية بشكل شخصي، حتى موهبة العزف على الآلات الموسيقية كان متفوقاً فيها، ويجيد العزف على أكثر من آلة موسيقية، وله بعض التجارب في التلحين، وقد صقل هذه الموهبة وتوجها بدراسته بالمعهد العالي للموسيقى العربية بالقاهرة، حيث التقى في تلك الفترة بالكثير من زملاء مشواره الفني من المطربين الخليجيين والعرب، وقدم في الفترة نفسها قدم أعمالاً غنائية أظهرت مستواه الفني الكبير، خاصة الأعمال التي قدمها مع الموسيقار الراحل عبدالعزيز ناصر (رحمه الله).
مدرسة الطرب
الفنان محمد رشيد ينتمي إلى مدرسة الطرب الغنائي القادر على الغناء الحر والارتجال وإدخال المواويل أثناء الأداء وإيصال مشاعره للجمهور، وهو يزاوج في أدائه بين العلم والموهبة ما جعله متميزاً عن المطربين الآخرين بهذا الأسلوب، فكسب الثناء والإعجاب على كل من سمع أدائه وعذوبة صوته، كما يتمتع بميزة القدرة على التحكم بدرجة الصوت وقوته، ومن أشهر الأغاني التي تظهر مهارته ومستوى قدراته الغنائية (لو تدري وتعلم، شمعتي بالليل) اللتان لحنهما له الموسيقار عبدالعزيز ناصر على النمط الطربي وسجلهما في مصر، وهمها تظهران تمكنه وقوة صوته وسيطرته الفعلية على حنجرته وثقته بنفسه.. أما في مهارة الارتجال التي كان يتمتع بها، فلو استمعنا إلى بعض الأعمال التي نقلها تليفزيون قطر أو إذاعة قطر من على خشبة المسرح مثل أغنية (بصراحة، شقال الفتى الشاطر) وغيرها.. سنكتشف مدى حضوره على المسرح وقوة أدائه دون مؤثرات موسيقية، وتحكمه في سير الفرقة المصاحبة ومهارة عزفه على آلة العود وتحوله بين آلية الجواب والقرار بكل سهولة.
الفنان المثقف
ويصف الموسيقار عبدالعزيز ناصر مهارات الأداء عند الفنان محمد رشيد بأنه أداء الفنان (المثقف) من حيث التحصيل العلمي ومهارات الأداء الصوتية التي يمتلكها، واستطاعته توظيفها بشكل نغمي وأدائي جيد.. وقدرته على التعامل مع الملحن بسهولة لسعة ثقافته.. ونلاحظ أن مساحة الصوت والعُرَبْ وحروفها عنده عريضة، كما يمتاز بذوق رفيع في انتقاء الكلمات والألحان، بشكل احترافي يوائم أسلوبه ولونه الغنائي في هدوء وانتقال مقامي سهل، سواء باللهجة المحلية أو الفصحى، وهو أسلوب يصعب أداؤه لغير المحترفين، مما يدل على امتلاكه ثقافة موسيقية سهلت له إمكانات التعامل مع النغم والموسيقى، وتوظيفها بشكل جزل في مختلف المقامات الموسيقية، وفق الأبعاد (الأوكتافات) والإمكانات الصوتية التي يمتلكها، وكذلك الوقوف والوصول إلى قفلات الجمل الغنائية بالشكل الصحيح.. ناهيك عن القدرة على التعبير عن فكرة العمل بأداء المثقف الواعي إن كان الأداء في مقام الفرح أو الحزن أو الرّقة.
تقدير الفن
تعرف الفنان محمد رشيد على الموسيقار عبدالعزيز ناصر في منتصف الستينيات من القرن الماضي، وذلك عندما عرض عليه الموسيقار الانضمام إلى فرقة الأضواء، ليكون أحد أعضائها، لكنه رفض الاشتراك.. يقول الموسيقار: (عرضت عليه الاشتراك في فرقة الأضواء، فاعتذر معللاً ذلك بعدم جدوى أن يمارس الفنان البروفات والتمارين اليومية، دون أن يجد التقدير الذي يستحقه..) كان الفنان محمد رشيد يؤمن بأهمية تقدير الفنان وإعطائه التقدير الذي يستحقه، فالفنان ليس أقل شأناً من الآخرين في مواقعهم وأداء مهامهم.. فالفنان يجب أن يعامل في موقعه وأداء مهامه الفنية أسوةً بالآخرين لا يختلف عنهم.
الطابع الطربي
كان الموسيقار عبدالعزيز ناصر يقدر موهبة الفنان محمد رشيد الغنائية كثيراً، ويأسف لابتعاده عن الساحة الفنية، وكان يأمل بأن يعود للساحة الغنائية يوماً.. ففي ابتعاده افتقرت الساحة الغنائية إلى فنان في وزنه يستطيع أن يملأ خانة الأعمال ذات الطابع الطربي الجماهيري، وهذا ما حدث بالفعل فقد افتقرت الساحة الغنائية إلى موهوب في قدراته الفنية، وذهبت كثيرٌ من الأعمال التي لحنها الموسيقار عبدالعزيز ناصر وكانت- من وجهة نظري- تصلح لهذا الفنان الكبير.. ذهبت إما للمجاميع (الكورال) أو لأصوات عربية أخرى، لاسيما التي ألفها في التراث العربي وأخرجها الموسيقار في ألبوم (من وحي التراث العربي) مثل: (أبكي الذين، دومي على العهد، يا معين المقلتين، غلب السرور) وغيرها.
نبرة الصوت
كنت اسأل الموسيقار عبدالعزيز ناصر إذا كان بإمكان الفنان محمد رشيد العودة إلى الساحة الغنائية مرة أخرى بعد طول انقطاع..؟ فكان رحمه الله يقول إن بإمكانه العودة إذا كان قد حافظ على قدراته الصوتية.. أو أنه سيحتاج إلى تدريب يعيد إليه قدراته الصوتية، لأن نبرة الصوت مهما كانت جميلة، فهي تتراجع في حال إهمالها وعدم العناية بها.
شخصية متواضعة
وكما امتازت شخصية الفنان محمد رشيد بالمثابرة في تقديم الأعمال الغنائية، امتازت أيضاً بحب الدعابة وخفة الظل مع الوسط الفني الذي تتعامل معه، ويروي من صاحبه وعاصره الشيء الكثير من المواقف الطريفة التي حصلت معه.. ومما أذكره في هذا المقام ما رواه لي الموسيقار عبدالعزيز ناصر، رحمه الله، حول المواقف الطريفة التي واجهته خلال مسيرته الفنية الطويلة مع الفنانين، منذ بداية إنشاء فرقة الأضواء إلى التحاقه بمراقبة الموسيقى والغناء بالإذاعة، ومما ذكره في هذا المقام أنه وأثناء توجهه إلى مبنى مراقبة الموسيقى والغناء بالإذاعة ذات مرة، وإذا بجلبة وضجيج وهتاف يحدث بين الموسيقيين على غير العادة بما يشبه العراك، ولما استفسر عما يجري داخل المبنى؟ّ! علم أن الفنان خفيف الظل محمد رشيد كان وراء هذه الجلبة.. حيث أطلق بخفة دمه كعادته دعابة من الوزن الثقيل تسببت في هذا الارتباك الشديد الحاصل بين الموسيقيين.. ومما اشتهر به الفنان محمد رشيد أنه شخص متواضع في حياته يكره التكلف في كل شيء، ولا يحب المبالغة في المظاهر، ولذا كان لا يبالغ في مظهره الخارجي أبداً ولا بطريقة لباسه واتساق هندامه، كما هو الحال عند بعض الفنانين الذين يبالغون كثيراً في التأنق التام في مظهرهم الخارجي، حتى أنهم لا يستطيعون مقابلة الجمهور على طبيعتهم.. بل لا بد من التأنق وبصورة متكلفة للظهور أمام الجمهور..!!
لو تدري وتعلم
من الأعمال الضخمة التي خلدت اسم هذا الفنان في الساحة الغنائية أغنية (لو تدري وتعلم) وكان لها شهرة على المستويين المحلي والخليجي، وهي من كلمات الشاعر القطري الرقيق عبدالله الجابر ومن ألحان الموسيقار عبدالعزيز ناصر، الذي أودع في هذا العمل الفني أبعاداً نغمية هائلة تتسع ومساحة صوت هذا الفنان صاحب الوعي المدرك لما يريده الموسيقار وما يحتاجه هذا العمل.. هذه الأغنية التي تعتبر من الروائع الإبداعية توفرت فيها أهم عناصر النجاح وهي قيمة (الصدق) صدق الكلمة.. صدق مشاعر الأداء.. صدق التعبير اللحني، وهي بحق أحد الأعمال الشامخة في بنائها الموسيقي والطربي، التي أبدعها الموسيقار عبدالعزيز ناصر وفصلها بشكل دقيق على مساحات صوت الفنان محمد رشيد، وامتازت بتنوع المقامات الموسيقية، وهي تستهل بموال ثم تنتقل إلى الأداء الإيقاعي والغنائي المتنوع.. قال عنها الفنان العربي فؤاد المهندس الذي تصادف وجوده في الاستديو أثناء تسجيل الأغنية باستديوهات القاهرة وسماعه لحنها بأداء الفنان محمد رشيد.. كما يذكر الموسيقار عبدالعزيز ناصر، رحمه الله.. وجه فؤاد المهندس كلامه لمهندس الصوت زكريا عامر قائلاً: (يا زكريا هو الغناء المحترم سبنا وراح عندهم ولا إيه؟!).
غير معروف
قبل أيام نشرت على وسائل التواصل الاجتماعي أغنية شعبية شهيرة يؤديها الفنان محمد رشيد كتب تحتها: فنان غير معروف؟؟ مما أثار حفيظة بعض الفنانين والمهتمين لهذا العنوان الهاضم لحق هذه القامة الموسيقية.. وأعربوا عن استيائهم وأسفهم لذلك.. وعلى افتراض حسن نوايا الناشر الذي يبدو أنه على غير علم بالفنان وبتاريخه الفني.. أقول إن الأعمال الغنائية التي قدمها هذا الفنان، ستظل محفوظة في قلوب محبيها.. محافظة على جمالها ورونقها حتى وإن أهملها من لا يعرف قيمتها.. وستبقى هذه الأعمال الجادة تنتظر من يعيدها إلى الأسماع من جديد.. وسيظل الأمل والتساؤل المشروع قائماً.. هل هناك من الأصوات في ساحتنا الغنائية اليوم من يستطيع أن يعيد تقديم هذه الأعمال الجادة، كما قدمها هذا الفنان الكبير..؟؟ أترك الإجابة للفنانين.
copy short url   نسخ
09/09/2018
8497