+ A
A -
الوطن - وكالات





نشرت صحيفة «الغارديان» البريطانية، تقريراً كتبته «لارا فيجل»، ناقدة أدبية، ومؤرخة ثقافية، تدرِّس بكلية كينجز لندن في إنجلترا، تذكر في تعريفها بنفسها أنّها لطالما فُتنت بالعلاقة بين حياتنا والتاريخ والأدب، ولعلَّ القضيَّة التي تناولتها في التقرير وثيقة الصلة بالحياة والثقافة؛ فظهرت في الكثير من الأعمال الأدبية، فمن خلال استكشاف الكاتبة لكفاح «دوريس ليسينج»، الروائية البريطانية الحائزة على جائزة «نوبل» للأدب عام 2007، من أجل تحقيق توازن بين الأمومة والحريَّة؛ تتعرَّض لمعضلة «التناقض الأمومي»؛ فقد هجرت «دوريس ليسينج» زواجها وأطفالها من أجل الكتابة.
تتناول الكاتبة مجموعةً من الأسئلة، أهمها: هل تحبُّ الأمُّ أبناءها حبًّا غير مشروط، لكنها في نفس الوقت تكره تخلّيها عن نفسها في سبيل رعايتهم؟ وهل تجد الأمّ مضضًا في التضحية بكلِّ حياتها في سبيل أبنائها، أم أنّ تلك المشاعر ضربٌ من عدم الامتنان والترف؟
تقول الكاتبة: إنَّها عندما كانت تُخبر أحدًا أنها تكتب كتابًا عن «الحرية ودوريس ليسينج»، فعادة ما انحصر رد الفعل في سؤالهم: «أهي التي هجرت أطفالها؟» ما ينمُّ – ضمنيًّا – عن الافتراض بأنَّ الحرية التي سعت إليها، والتمستها، بغضّ النَّظر عن مدى تعقُّد ووعورة الطرق التي خاضتها، كان ثمنُها باهظًا؛ إذ لم تدفع ثمنَ التخلِّي عن الأنوثة فحسب، بل ثمن الوحشية في هجر أطفالها أيضًا.
وتضيف أنّها عندما تقول: إنها تكتب الكتاب على غِرار المذكّرات، وأنَّه بدأ أثناء حالة تماهٍ عنيفة مع دوريس، تشعر أحيانًا أنَّها متورّطة في إصدار الأحكام عليها؛ فيبدو من دفاعها عن أفعال دوريس، مع تأكيدها على أنها لم تنجم عن غيابٍ صريحٍ لحبِّ وعاطفة الأم، أنها تعترف بهذا القصور والنقص شخصياً.
تردف الكاتبة قائلة: إنّ تلك الأسئلة الصعبة كانت إلى حد كبير الدّافع وراء البدء في الكتاب باعتباره مذكّرات؛ إذ يتيح الفرصة للتحقيق في محاولات دوريس السعي لأجل الحريّة الاجتماعية والسياسية والجنسية والنفسية من خلال عدسات حياتها الخاصة.
يبدأ الكتاب بفصل صيفٍ حضَرَت فيه الكاتبة العديد من حفلات الزفاف، وكانت قد بدأت في نفس الوقت في قراءة كتاب دوريس: «المفكرة الذهبية» (THE GOLDEN NOTEBOOK)، الذي كتبته عام 1962؛ وذلك لمحاولة استكشاف الحياة الفنية الإبداعية والجنسية الخاصة بـ«امرأة حرة» مستعدَّة للتضحية بالسعادة في سبيل التحرر.
تقول الكاتبة: إن «آنا وولف» في الرواية تعترف قائلة: «أنا أهتمُّ فقط بتمديد نفسي.. وفي العيش على أكملِ وجه قدر استطاعتي»؛ ما أثار داخلها بعض المخاوف في خِضمّ حفلات الزفاف الكثيرة، خشيت أن جيلنا ربما تخلَّى عن «آنا» وغدر بها، وبما تمثله هي ومؤلفة الكتاب، تعتقد «لارا» أنّ الزيجات التي نحتفلُ بها بمعدلاتٍ عالية اليوم، تعتبر الزواج حياةً أبديةً سعيدة، وأنَّ الزواج الأحادي – أي من شخصٍ واحد – والعدد المناسب من الأطفال المولودين على فتراتٍ متباعدة كافية بين كل طفل وآخر، أمورٌ مسلَّم بها؛ فدخلوا إلى عالمٍ حيث العمل هو الوسيلة لتحقيق السعادة القصوى المرجوَّة من الحياة الأسرية، حيث أصبح الحب متمثلًا في كلمة «أحبّك» في ختام كلِّ مكالمةٍ هاتفية. تقول الكاتبة: إنَّها تشعرُ بالراحة في حفلات الزفاف إلى حدٍ ما؛ لأنَّها كانت مقتنعةً بتلك الرؤية؛ ما أصابها بالاختناق؛ بسبب اضطرارها لتبرير إصرارها على حقها في العيش على أكمل وجه، دون حتى معرفة ما يستتبعُ ذلك.
دفعها ذلك إلى التفكير مليًا في تجربة زواجها وأمومتها، تزامنًا مع محاولتها استكشاف ما جنته دوريس، وما فقدته، خلال محاولتها إيجاد حياة جديدة أكثر حريَّة، ولا تُخفي الكاتبة شعورها هي الأخرى أحيانًا بأنَّ الروابط الأسرية والحب الأمومي أشبه بمصادر للتقييد، مثلما هي مصادر للبهجة؛ فقد تعرَّضت للانتقاد كثيرًا، والطَّعن في أمومتها عندما كانت تترك ابنها ذا الستة أشهر – قبل خمس سنوات تقريبًا – مع زوجها؛ حتى تختلي بنفسها بعيدًا لتكتُب، كانت تغيب عادة لمدة أسبوع واحد، فتتساءل: «من يدري ماذا كنت لأفعل لو كنت أعيش في الأربعينات من القرن الماضي في روديسيا الجنوبية محاصرةً بحفلات القهوة الصباحية وملّاك الأراضي، كما كان حال دوريس، قلقة من أنّ اللحظة التي قد أتمكن فيها أن أكون نفسي علانية ربما لن تأتي أبدًا؟».
كانت «دوريس ويزدوم ليسينج» تبلغ من العمر 23 عامًا عندما تركت طفليها (الابن ثلاث سنوات، والبنت سنة واحدة)، لتبدأ حياةً جديدة على بُعد بضع شوارع من بيتهما. قبل هجرهما انضمَّت إلى حزبٍ شيوعيّ، مقتنعة أنها بذلك كانت على وشك خلق عالمٍ جديد لها ولطفليها، وأرادت الكتابة، لكن سرعان ما اكتشفت أنَّ تحقيق ذلك مستحيل في ظل العيش مع رجل تقليدي للغاية.
بعد مرور عقد من الزمان، صورت دوريس شخصية «مارثا» التي تهجر ابنتها في رواية «زواج لائق» (A PROPER MARRIAGE)، تضمُّ «مارثا» طفلتها مدركةً أنها تحتضنها للمرةِ الأخيرة، مستشعرةً أنَّ تلك الطفلة ذات الثلاث سنوات وحدها فقط تفهمها، ولدقائق قليلة تضمُّ «هذا المخلوق المليء بالحيوية والمفعم بالطاقة» بشدةٍ إلى صدرها، فتهمس في أذنها: «ستكونين حرة تمامًا، كارولين.. ها أنا أطلق سراحك».
تقول الكاتبة: إنه في عالمنا اليوم، حيث لم نعد نعتقد أنَّ الشيوعية قد توفر لنا الحرية، ولا نؤمن بالشعارات الشيوعية، وأنَّ الأسرة «بناء ميت»، لا يبدو أي من ذلك منطقيًّا، لكن ما يبدو أكثر منطقية لنا اليوم هو الوصف المؤلم للحبّ الأموميّ قبل مغادرة «مارثا» وهجرها طفلتها. فمنذ لحظة ولادة طفلتها، بدأت «مارثا» تتخيَّل تركها المنزل وأسرتها، فهي تمقُت «الحبل السريّ الخفي» الذي لايزال يربطها بابنتها حتَّى بعد الولادة، وتخشى أنها «لم تعد ذات نفع»، إذ لم يعد بإمكانها تأدية مهامها السهلة التي تفعلها كل امرأة بطبيعتها: «أن تكون أمًا».
فنلاحظ مدى تعقيد تجاوب «مارثا» مع هذا الرابط الخفي الذي يربطهما، تقول «مارثا»: «كم هو محبَّبٌ للقلب تحميم المولودة الصغيرة»، وفي وصفٍ آخر تتعجَّب من جمال «رؤيتها مرتديةً فستانها القطنيّ الجميل، وقدميها الرقيقتين ورديتي اللون تحاول الاتزان بثباتٍ وقوةٍ على الأرض». حتى عندما يصير التفاعل بينهما أكثر تعقيدًا، فهي واعية لهذا الحب بطريقة مؤلمة، على سبيل المثال: بعد شجارهما بسبب تناول الطعام؛ إذ تصف قلبها «كقطعةٍ متضخمة ملتهبة من شدة العاطفة تجاه الطفلة، يملؤها الأسى على سوء معاملتها».
copy short url   نسخ
08/09/2018
2822