+ A
A -
الوطن - وكالات
نواصل في نشر التقرير الذي بثه موقع هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) حول أبرز الطغاة الذين أجادوا كتابة الشعر عبر التاريخ، فقد بدأت الماركسية الروسية كموجة من الحركات الجمالية الراديكالية، فكتب الشاعر الطاغية ستالين للاتحاد السوفياتي بأسلوب محافظ مما جذب إليه الانتباه، وفي شبابه شكل ستالين الشعر في اللغة الجورجية؛ وهي لغة محظورة في المدرسة الدينية الأرثوذكسية التي ترعرع بها وتلقى تعليمه – وتطغى على أعماله رومانسية الشاعر المتمرد والعصر الذهبي المفقود، وتتفرد قصائد ستالين الشعرية بالتقليد المذهل، وانعدام السخرية الذاتية، و«المبالغة»، وفقاً للناقد إفغيني دوبرينكو.
من المتعارف عليه عن الفن الهابط أنه محض زخرفة وتزيين للكلمات، أما شعر ستالين فكان مفعماً بالصور الطبيعية: «تحت السماء الزرقاء وفي بستان يصدح العندليب»، بينما على النقيض تظهر روح موسوليني المعذبة جلية في قصيدة «الغابة المظلمة من الليل» وإن بها من الجدية قدر الدهشة الحاضرة في أن تولد هذه القصيدة في ذهن سياسي:
أعرف على وجه اليقين أنه ذات مرة
وُجد على الأرض، رجل مضطهد
يسعى مرارًا للوصول إلى الجبل حيث النقاء
متلفعًا بالأمل.
وفي شعر آخر «فوق هذه الأرض» (1895)، يتخيل موسيليني فناناً يهب الموسيقى كوحي للجماهير:
وقْع الصوت فعل الكثير في قلب الرجل
أذاب كل ما كان قد تحول إلى الحجر
أضاءت حيزاً كبيراً من عقل الرجل
الذي ما كان يفضي سوى إلى الظلام المطلق.
مع ذلك، لم يلق ستالين تقديراً من قبل أولئك الذين يسعون للتحرر من سياسته القمعية: «وفي فيلم الغوغاء الذي يحكي عن منبوذين يقبعون في سفينة مليئة بالسم، والسم ليس إلا إسقاطاً على الفساد». يظهر ستالين في وقت لاحق مغنياً ينشد قصيدة «أذرف الدمع على حياة العديد من الفلاحين المريرة»، وببصيرته تلك فقد «نصب لنفسه مكانًا في قلب كل جورجي»، وقد نشرت قصيدته فيما بعد دون ذكر اسمه، كما ظهر شعر ستالين في المجلات الأدبية المرموقة إذ كانت بمثابة مختارات أدبية باعتبارها نموذجاً من الأدب الكلاسيكي الجورجي.
في الواقع، فإن كتاب السيرة الأكثر نقداً لستالين قد أشادوا بعظمة شعره، حيث وصف سيمون سيباغ أن الجمال يكمن في الإيقاع واللغة المستخدمة، في حين قد يتعسر إيصال ذلك الشعور الذي يسكنه وقتما يتم ترجمة نصوصه، بينما يعقب روبرت سيرفيس أن العمل يمتلك نقاوة لغوية لا يمكن إغفالها مما يعكس جمالاً يسكن في طياته، بالإضافة إلى المظهر البطولي في ظهور ستالين في الواقعية الاشتراكية، ضد الطليعة التجريبية الحديثة.
وريث ستالين الروحي، هو يوري أندروبوف، والذي دمج البيروقراطية مع الرومانسية، وبصفته رئيساً للجبهة، قام باضطهاد المعارضين وسحق الانتفاضة المجرية، بينما كان يكتب قصائد الحب لزوجته. (القدرة على الانفصام والتناقض المطلق هي سمة أساسية للديكتاتور) ويقص الشاعر الأوزبكي حامد إسماعيلوف حكاية ملفقة لأندروبوف مفادها: أن أحد كتابه الذين يخطون خطاباته أرسل له في عيد مولده بطاقة معايدة، مازحاً أن السلطة تفسد الناس، والتي رد عليها أندروبوف بأبيات من الشعر تقشعر لها الأبدان:
ذات مرة بادر نذل بالقول
أن السلطة تفسد الناس
ومن ثم، ظل النقاد يكررون ذلك القول
لسنوات عديدة
دون أن يلحظوا للأسف
أن الناس في كثير من الأحيان تفسد السلطة.
وعلى نهج ستالين في الكتابة خطا الزعيم الكوري الشمالي كيم إيل سونغ، فقام بتأليف المسرحيات الثورية والنظريات، وأبرزها «نظرية البذور»، والتي قدمت كيم باعتباره أباً للاختراع الفني، وفي عام 1992، كتب كيم قصيدة عامة لابنه، جونغ إيل:
أيمكن أن يكون عيد ميلاد نجمنا الساطع الخمسون؟
لقوة قلمه وسيفه نال إعجاب الجميع
مزج بين الإخلاص والعقل البناء
والجمع يهتف بالثناء راجّاً السماء والأرض.
كيم، الأب الحاكم للأمة، كان يطلق عليه أيضاً «شمس الأمة»، على غرار ماو تسي تونغ (زعيم الحزب الشيوعي الصيني) الذي لُقّب بـ«الشمس الحمراء في قلوبنا»، ماو كان العقل المدبر لفكرة القلم والسيف وهما ليسا إلا إسقاطاً على مثالية الحاكم، وفي الفلسفة الصينية أحرف رمزية حبلى بالمعاني (وين وو)؛ «وين» هي القدرة الثقافية أما «وو» فهي براعة الدفاع عن النفس وهما مكملتان لبعضهما البعض، المفارقة أن ماو حرص على حصر فلسفته لتلائم التقليد الإمبراطوري في حين مضى رأساً في تجاوزها، مشيراً في عام 1936 في قصيدة له أن قلة من الأباطرة خلّفوا بعد مضيهم تركة أدبية، حيث قال: في وقتنا هذا إذا رغبت برؤية رجل عظيم فابصر هذا العصر – يتحدث عن نفسه – وحده.
يحمل شعر ماو في مضمونه العام الكلاسيكية المصبوبة في قالب الأرثوذكسية، حيث سعى إلى توجيه تقليدية أسلوبه صوب ازدراء المفاهيم الكبرى (الثقافة، العادات، التقاليد، الأفكار)، فكتب ماو مستخدماً النمط القديم، رغماً عن تنديده بأنها نخبوية وبالية عفى عليها الزمن، إلا أن خشيته من تفشي مثل هذه الأخطاء التي يتم تداولها، مما يشكل إمكانية أن تودي سلباً على الشباب جعلته متشبثاً بمعتقداته ولو كانت حبالاً ذائبة، وقد عُرض عليه رئاسة تحرير إحدى المجلات، لكنه اختار الغرق حد أذنيه في أسلوبه الخاص الحر، على الرغم من أن ذلك ما حظره على الجميع.
في لغة ماو وبين ثناياها تظهر براعته في خلق الصور حداً من الإتقان المحكم مثل: التلال عند البحر الأزرق/ الشمس الميتة تنزف دمًا أحمر، بالإضافة إلى المواضيع الكلاسيكية: رجل يحيا في عالم كل الأشياء فيه عرضة للانقلاب، وإذ فجأة تصبح البحار حقولاً من التوت، ويتلاشى الرجل متحولاً إلى إبيجراما (نقش على الحجر في المقابر لإحياء ذكر المتوفى) وتجسد تلك الحكاية القول المأثور عن أن التضحيات الجليلة تخلف نتائج عظيمة، على سبيل المثال: فتيات الصين لديهن عقول متقدة الذكاء، تروق لهن صفوف المعارك، لا الحرير أو الستان. لكن أعمال ماو دليل على أن الإتقان الفني وحده ليس ضماناً لسياسة حكم جيدة، ففي عام 1966، قام الحرس الأحمر بإلحاق كُتيبهم الأحمر بمجموعة من 25 قصيدة منسوبة إلى ماو، الأمر الذي أدى إلى إشعال فتيل الحماسة تجاه تلك الأبيات الشعرية قديمة الطراز ومن بينهم على وجه الأخص تلك الموجهة لتدمير «الإقطاعية». السطر الأخير الذي كتبه ماو قبيل عام من إطلاق الثورة الثقافية، كان نبوءة حبلى بهواجس الاضطرابات القادمة: «انظروا، العالم يتحول رأساً على عقب».
copy short url   نسخ
21/08/2018
2837