+ A
A -
نحــت النــاقــد الأدبي فيساريـــون بلينسكي (1811 - 1848) مصطلح «باثوس» للإشارة إلى الأثر الذي يتركه العمل الفني في النفس.. والمعنى الأقرب لـ«باثوس» بلينسكي هو «الشهوة الروحية».
إن الشرط النقدي الذي يضعه بلينسكي لقبول عمل ما ضمن دائرة الفن الرفيع منصف ودقيق تماماً.
يتطلب الناقد بلينسكي من الأدب أن يكون قادراً على فعل الشيء نفسه الذي تفعله في نفوسنا المرأة الجميلة أو الطعام اللذيذ، أيّ أن يكون العمل الأدبي شهياً ولذيذاً فتستيقظ الروح الخاملة وتشعر بالشهوة للتسامي نحو عالم روحي نقي ومشبع بالجمال.
يضيف بلينسكي غريزة ثالثة إلى الغريزتين المعروفتين الأكل والجنس- هي الغريزة الروحية، وهي احتياج جوهري يشبعه الإنسان عن طريق الدين أو الفن.
إن الإنسان الذي يحرم نفسه من تذوق الفنون والآداب هو شخص لا يعرف المتعة الروحية، وهي متعة أكثر رقياً ودواماً من متعتي الأكل والجنس.
يُعلمنا بلينسكي أن الإنسان لديه غريزة ثالثة، وهذه الغريزة الثالثة تحتاج إلى وسيط وهو الفن الذي يثيرها لتنمو وتتطور.
إن واجب الفن هو أن يثير شهوتنا لنتطور روحياً، وهذا التطور الروحي ملموس لدى الأمم والأفراد الذين تشبعوا بالآداب والفنون الرفيعة المستوى.
جرت العادة أن يسعى الأديب إلى جعل عمله الأدبي «ممتعاً» للقارئ.. لكن المعيار الذي يقترحه بلينسكي أعلى بكثير.. إذ لا تكفي «المتعة» الآنية التي نحصل عليها من القراءة للحكم بجودة النص؛ ولكن المطلوب أن يثير فينا مشاعر مختلفة كلياً، بهجة روحية خفية ورغبة للاتصال بالكون والروح الخالدة.
المعادلة الفنية التي يطرحها بلينسكي قد تبدو صعبة التحقيق، ومن ذا الذي يقدر أن يجعل من كتاباته وسيطاً بين عالم المادة وعالم الروح؟؟ إن هذا يعني ضمناً أن على المبدع أن يختبر نوعاً من التجارب الروحية الغنية لكي يتمكن في المقابل من عكسها في إنتاجه الفني، وأن يُحلق هو أولاً في سماء الروح ليتمكن القراء تالياً من مشاركته التحليق ومعرفة بهجة الأعالي..
لكن المفاجأة أن العديد من الأدباء والفنانين العباقرة يمكنهم فعل شيء أكثر فعالية.. ليس فقط إنتاجه الفني هو الوسيط، بل إنه هو نفسه يتحول إلى وسيط بين عالمي الروح والمادة.
إن الفنان الحقيقي يتيح نفسه ليكون أداة بيد قوى الكون، وأن تُولد من خلاله شعلات تضيء العالم اللانهائي.
لذلك ليس المقصود أن ينخرط المبدع في تدريبات روحية، لأنه يمكنه أن يكون «أداة» اتصال بين العالمين المادي والروحي إذا هو هيأ نفسه للعب دور «المتلقي».
يبدو دور «المتلقي» مناقضاً لدور المبدع «المعطي»، إنه دور أنثوي، وشيء شبيه بميسم الزهرة التي تنتظر هبوب حبوب اللقاح.
من الغباء أن يحسب المبدع نفسه قادراً على العطاء دون أن يكون قد تلقى شيئاً ما.. إلا إذا كان يظن أن تسويد الأوراق بأيّ شيء يُعد إبداعاً. نجد أفضل نموذج للباثوس في مسرحيات شكسبير.. إن شخصيات مثل (هاملت) تخلق فينا هذا الشعور النادر بسهولة.. إن الشهوة السرية التي تمور في نفوسنا نحو الجليل والكمال المطلق تجد تنفيساً لها وتعبيراً عنها في الأدب والفن.
copy short url   نسخ
21/08/2018
3322