+ A
A -
-ميخائيل سعد
لم يسعفني الحظ، خلال الأربعين سنة التي عشتها في البلاد العربية، أن أزور أحد السجون السعودية. ولكن عندما وصلت إلى كندا عام 1989، كنت قد أمضيت بعضا من وقتي في ستة سجون سورية، تابعة للمخابرات، منها ما هو على الأراضي السورية، ومنها ما هو على الأراضي اللبنانية، في زمن «الاحتلال» السوري للبنان. وعلى الرغم من أن الجيش السوري قد خرج مرغما من لبنان، بأمر من الرئيس بشار الأسد، إلا أن احتلال لبنان، كان بأمر من «الرئيس حافظ الأسد»، حليف السعودية الأقرب عقودا.
عندما رأيت على فضائية «العربية» السعودية مقابلات مع «ناشطين سعوديين» يتحدثون عن السجون الكندية، والاعتقالات التعسفية، وعدم احترام حقوق الإنسان، والعنصرية، عادت بي الذاكرة إلى عام 1993، ففي ذلك العام تعرّفت على أحد «المنشطين» في سجن بوردو في مونتريال، وهو من أصول مغربية. وكنت، في لقاءاتنا في أثناء تغطيتنا مهرجان مونتريال السينمائي، لصالح صحيفة عربية في المدينة، قد رويت له تجربتي في السجون السورية في سوريا ولبنان، فقال: سأقدم لك فرصة تزور فيها سجنا كنديا للمقارنة.
كنت قد تعرّضت للاعتقال مرتين، الأولى عام 1976، تم احتجاز حريتي ثلاثة عشر شهراً في سجن المزّة الشهير، وفي سجن حماه المدني. والثانية عام 1988، وتم حجز حريتي سبعة أشهر، ولكن رحلات هذا الاعتقال كانت كثيرة؛ فقد تعرّفت على فرعي فلسطين ولبنان وسجون عنجر وطرابلس وبيروت، قبل أن يتم إخلاء سبيلي من دون أي تهمة، ومن دون محاكمة، في الاعتقالين. بعد الاعتقال الثاني، نصحني أحد رجال المخابرات بمغادرة البلد، حرصا على سلامتي، بعد أن تكلمت، في أكثر من مكان، عن المبالغ المالية التي قبضها رئيس فرع فلسطين، مظهر فارس، من منافسين تجاريين، لإبعادي عن سوق الكتاب، المجال الذي كنت أعمل فيه، فكانت كندا محطتي الأولى، حيث تقدّمت بطلب لجوء، فتم قبولي فورا لأسباب إنسانية وسياسية، ومنحي راتبا شهريا من المساعدات الاجتماعية، إلى أن أجد عملا، وقد استغرق ذلك سنوات.
لست بصدد الرد على الاتهامات السخيفة والغبية التي ساقها سعوديون عن سوء السجون الكندية، وخرق حقوق الإنسان فيها، ولكن سرد ما أعرفه، وما عشته قد يكون شهادة مني عن بعض الأوضاع في سوريا الأسد وفي كندا.
في «قبو» فرع فلسطين، المهجع الأول- إذا كانت ذاكرتي ما تزال سليمة- كنا 54 معتقلاً في مساحة 16 متراً مربعاً. في طرابلس اللبنانية، في مدرسة الأميركان التي تحولت مقرّا للمخابرات السورية وسجنا في الوقت نفسه، كان على الثلاثين سجيناً، عندما يريد أحدهم الذهاب إلى المرحاض، أن يدخل إلى حمام مسطوم، خائضاً في الفضلات الإنسانية حتى ركبتيه، بينما كان إصلاحه لا يكلف أكثر من اتصال هاتفي من الفرع مع بلدية المدينة، ولكن، كما قال رئيس الفرع، المقدّم أحمد الشعار (أصبح في ما بعد وزيرا للداخلية في عهد بشار الأسد)، «على كل سجين أن يتمرمط..»، كي يعرفوا قيمة النعمة التي يمنحهم إياها سيادة الرئيس.
(يتبع)
copy short url   نسخ
14/08/2018
726