+ A
A -
كان العالم يتحالف لمحاربة فكرة اصطفائية، اعتبرت نفسها جوهر الحقيقة، وبالتالي الفرقة الناجية، ولأجل ذلك، بعد صناعة المقولة وبلورة النصوص بما يتفق مع ذلك، جندت الشباب وسلحتهم بالعقيدة أولاً والسلاح ثانياً، مما مكّنها من حيازة المكان الذي أوجد مساحة جيوسياسية، سمت نفسها اختصاراً «داعش»، وهذه عبرت عن فكر انغلاقي يصور الآخر عدواً، وبالتالي مشروع قتيل، هذا العالم الذي بذل في سبيل ذلك أعداداً ربما لا تُحصى من الصواريخ، والعتاد والجنود، وأرقاماً لن تكون أبداً دقيقة من الضحايا والمشرّدين، ووسائل إعلام جَمّلت الوجه البشع، في حالات كثيرة، لتلك الحرب التي امتدت سنوات، وتكاد تنتهي بدون حسم حقيقي للظاهرة، وإنما بهزيمتها مؤقتاً، ربما لجولةٍ أخرى، لأن عناصر إنتاجها لا تزال كامنة في وجدان كثيرين.
هذا في ما يَخُص «داعش»، فما بالنا و«داعش» قد اختفى منذ عقود في حضن الحضارة العريقة، والتي ادعت أنها المُنتِج الفعلي للقيم الإنسانية والأخلاقية التي تكرس الآخر، وتحترم مكانته وتعتبره رديفاً، حتى في أقصى لحظات ضعفه، وإنْ كان على الصعيد النظري فقط، أعني إسرائيل والغرب.
اعتمدت إسرائيل، منذ إنشائها، مبدأ الاصطفاء المستند إلى فكرة دينية، فحواها الشعب المختار والمميز ربانياً وبالتالي أرضياً، واستحضرت لأجل ذلك كله تاريخاً لا تاريخياً، عمره آلاف السنين، لم ولن يثبت أركيولوجياً في أي يوم. ومع ذلك، استطاعت، وفي ظرف تاريخي، أن تحصل على اعتراف العالم القوي بأحقيتها في تحقيق ما ادعى رواده أنه حُلم الشعب المختار، وهذا ما حصل.
ولتوائِم مشروعها مع مطامع الأقوياء، غلّفته بغطاء هشٍّ من القيم التي يَدّعيها، فكان الشكل
الديمقراطي والتعاوني والقيمي والإنساني الذي سينهي معاناة شعبٍ سَخَطت عليه الأمم، وعانى، بسبب ذلك، آلاف السنين، وها هي حضارة الغرب تعيده، ليطلق شعاعاً من التحضّر في منطقة افتقدت (كما ادّعى الآباء الأوائل للمشروع) من أي شكل للتحضر، فكانت (إسرائيل)، ولكي يتم ذلك، وفي الوقت الذي تم فيه استحضار شعب ولغة وتاريخ من بُطُون كتب زوّرت بعناية بالغة، لتساهم في صناعة أمة أكثر هشاشةً وزيفاً من التاريخ الذي صُنعت منه، كان يتم، في اللحظة نفسها، محو أمة وشعب من ذاكرة الحاضر، أعني الشعب الفلسطيني.
إلى هنا لحظة التدشين، حيث بدأت بعد ذلك مظلمة تاريخية، تعدّدت جوانبها، فلم يُعرف لها أب حقيقي، فالجميع اشتركوا في لقاح هذا الهجين المنبعث من أعماق تاريخ مزيف، لكنهُ ولد وولدت معه دولة تُصر على أن تكون، ولكن بوجهين، الخارجي كما يرضى العالم، وفي الداخل كما تشتهي النوازع الحاقدة لأقلية نخبوية أدارت هذا الحلم وتبنّته. وفي الطرف الثاني، ولدت معاناة بلا حدود، صورت في خارجها نهاية شعبٍ استغل أرض غيره، وتبنّى طريق الإرهاب غير المقبول حضارياً.
إلى هنا، ربما لا يكفي الشكل وحده، لوضع إسرائيل في خانة الداعشية، فهي ظاهرياً واحة للديمقراطية وحقوق الإنسان ونموذج مميز للحضارة الغربية في شرق قاحل إلا من القسوة والتخلف. ولكن في العمق هي المنتجة الحقيقية لفكرة لربما تعتبر ملهمة لكل الداعشيين.
يتبع
copy short url   نسخ
28/07/2018
277