+ A
A -
كل يوم يعدو عليك لابد أن يمرَ في ذاكرتك مشهدٌ أو كلمةٌ أو ابتسامةٌ ما كنت تعيشها بكل تفاصيلها في الأمس القريب... أو البعيد جداً!
لكن واقع الحياة.. وحقيقة كل خطواتها.. يدفعانك بقوة أن تنظرَ للغد.. الذي حين يأتي أيضاً سيغدو- لزمن وجيز- تلك اللحظة الآنية المهمة جداً بكل تفاصيلها.. لكنك لن تتمكن من عدم مشاطرة هذا الغد- عندما تُعايش لحظاته الآنية- شيئاً من الأمس.. والزمن المتحول في لحظاته التي ينقلها ما بين الحاضر والغد والأمس في مروره السريع عليك يجعل في أحيان كثيرة صور الحياة تبدو في ذاكرتك كلقطات سينمائية سريعة ومتداخلة.. تماماً كتلك المشاهد السريعة التي قد يصعب على عينيك التقاطها وأنت تجلس في قطار سريع.. سريع جداً..
أغلب أصحاب النظرة الإيجابية في الحياة وأصحاب الأمل المُتقد الذين يُعبدون لك كل الطُرق الوعرة فيها بأحاديثهم المُتفائلة جداً والتي قد تُوهمك أحياناً بقدرات غير موجودة فيك ولا فيمن حولك!... يَرون أنّه من الأفضل لك ألا تنظر للأمس وتبدأ من اليوم.. وهذا ضربٌ من ضروب المستحيل.. فأنت في اجتيازك لدروب الحياة إن كُنت راكباً أم ماشياً.. لابدّ أنّك ستنظر يُمنةً ويُسرة ثم تحين منك التفاتةٌ خاطفةٌ للخلف..
وهذا ما تفعله الذاكرة كل يوم.. جزء من اليوم لابدّ أن يعود لجذوره التي سيكون عليها بعد ساعات معدودة..
هذه اللفتات السريعة من الذاكرة ما هي إلا حنينٌ آسرٌ للروح لذلك الماضي وهو ما يطلق عليه بــ«نوستالجيا» وهي حسب ويكيبيديا كلمة يونانية الأصل وهي تصف ذلك الشغف والحنين الجارف الذي ينتاب الإنسان لعصور ماضية بشخصياتها وأحداثها.. ولفترة ما وُصفَت على أنّها شكلٌ من أشكال الاكتئاب ثم أصبحت بعد ذلك تُشكل موضوعاً رومانسياً ذا أهمية بالغة.
وبالرغم من أننا نُغلفُ هذه «النوستالجيا» أحياناً بشيء من الحزن والشجن إلا أنّ لخبراء علم النفس رأيٌ آخر في ذلك.. فهم يَرون فيها آلية دفاع يستخدمها العقل لرفع المزاج وتحسين الحالة النفسية.
يقول الدكتور آندي مايرز من جامعة ساري في (غلدفورد جنوب لندن): «لقد تمكنا للمرة الأولى من إثبات الفوائد الجسدية والعاطفية لأهمية العودة إلى الماضي وتذكر الأحداث الجميلة».
كل تلك اللحظات التي تستدعيها الذاكرة خلال يومك ماهي إلا جزءٌ من قاموس المعاني العميقة خاصتك.. كَونَتْها وأَثْرَتها تلك الوجوه والأصوات والصور والأحداث التي مررت بها خلال مراحل عمرك المختلفة.
إذن هي كامنةٌ فيك لم ترحلْ بعد.. هي نبضٌ قد سمعته في قلبك قديماً وقد عاد.. وما أحلى الرجوعَ إليه!
ولو تأملت في ذاتك وفي أصل تكوينك لوجدت أنّك خُلقت وبك بذرة حنين وانتماء متأصلةٌ للماضي مُتمثلةً في جيناتك الوراثية.
أليست شكلاً من أشكال العودة للماضي بل والانجراف نحوه بقوة شديدة رغماً عنك.. حنين النفس التي لا تتوانى عن اكتساب الكثير من الصفات الشخصية وراثياً من الأبوين مباشرة أو تنتقي لا إرادياً من تلك السلالة الطويلة من الأجداد والأقارب إحدى السمات المُميزة لهم.. ناهيك عن اكتساب الصفات الجسدية وتوارثها... لون عينيك.. وطولك.. ملامحك.. لون بشرتك.. كل ذلك ألا يجعلك تبحث عن تلك الجينات التي يشتدُ بها الحنين لهذه الدرجة! ألا يَحملك كل ذلك أيضاً على الظن بأنّك ما أنت إلا شخصٌ قديمٌ... قديم... ولكن بنسخة جديدة؟
وكما إنّ لأحدهم لديك قصةً من قصص النوستالجيا.. ستكون أنت غداً حكاية من حكايا الحنين يرويها أحدهم.. وقد يكون هنالك آخر يحملُ شيئاً من ملامحك وخصالك للزمن القادم...
ألا ترى بأننا نشعرُ بتلك النوستالجيا عندما نعود لتراثنا أو حين رؤيتنا لطلل بال.. وكأننا عشنا تلك الفترة من الزمن؟ هل هو إحساسنا نحن أم هي جيناتنا الوراثية؟!
يقول الكاتب الرائع إبراهيم عبدالقادر المازني في إشارة جميلة منه لذلك: «والإنسان منا يعرفه الناس باسمه، ويرونه فيدركون أنّه هو فلان الفلاني، ولكن فلاناً هذا ليس إلا عدة أناس تعاقبت على حمل هذا الاسم».
وقد يقولُ قائلٌ إننا وفقاً لذلك قد سلبنا الإنسان إرادته.. لكننا في الواقع لا نسلبه شيئاً إنما نتحدثُ عن أمور جرت عليها الكثير من الأبحاث في علم الوراثة.. عدا إنّها مُتداولة في الأوساط الاجتماعية قبل أن يُبصر «مندل» نفسه وجه الحياة.. وما هي إلا عوامل تُسهم في تكوين شخصية الإنسان وبُنيته لكنها لا تتحكم به ولا تسلبه خياراته في الحياة!
إذن الحنين ليس بترف الشعور والإحساس الذي نُريدُ أن نُظهر من خلاله عمق العاطفة لدينا.. إنّه حقيقة وواقع.. شيءٌ يمضي كموسيقى عذبة خفية يغلف أزمنتنا بكل شفافية.
هذه هي النوستالجيا... إذن بماذا نصفُ شعور الأشخاص عند عودتهم إلى مكان مميز من ماضيهم؟! إنّها الــ«توبوفيليا» وهي الكلمة التي أطلقها الشاعر ويستن هيو أودن عام 1948م لوصف مثل هذه الحالة الشعورية.
وكل ذلك ليس إلا... شيءٌ من الأمس.
copy short url   نسخ
23/07/2018
5948