+ A
A -
وجدي الأهدل

قرأت مؤخراً رواية كتبها أحد الأصدقاء، ورغم جمال فكرتها ولغتها المصقولة فإنني شعرتُ بالانزعاج من شيء ما.. عاودتُ قراءتها فاستنتجتُ أن السبب يعود إلى الإيقاع.
حين تقابلنا– وكان متلهفاً لمعرفة رأيي في الرواية- أخبرته أن الصفحة الوحيدة في كتابه التي تنتمي حقاً لفن الرواية هي الصفحة الأولى، ولكن بدءاً من الصفحة الثانية يتغير الإيقاع، ويمر البطل بثلاثة تحولات قبل أن ندلف إلى الصفحة الثالثة، فأخبرتُ صديقي الروائي أن هذا التسارع في تطوير شخصية البطل حَرَفَ إيقاع الكتابة من الإيقاع الروائي إلى الإيقاع القصصي.
لم ينبس بحرف، ولعلنا لن نتبادل الكلام بعد تلك المحادثة أبداً.
من مبادئ الكتابة أن لكل نوع من أنواع السرد إيقاعه الخاص. وحتى القارئ العادي يمكنه الإحساس بهذا الإيقاع بصورة مبهمة، ومن ثم التعبير عن انسحاره بالعمل الأدبي ورغبته في قراءته مرة أخرى، أو العكس يعبر عن أسفه لضياع وقته.
إحدى معضلات الكتابة هي عدم العثور على الإيقاع الصحيح؛ ومن ذلك مثلاً كتابة الرواية بإيقاع قصصي.
تشبه القصة القصيرة الأرنب، وتشبه الرواية السلحفاة، وهما في سباق، ليست إحداهما مع الأخرى، ولكن كلا منهما في سباق مع نفسه، وكلاهما– أيّ الأرنب والسلحفاة- سينجحان حتماً في الوصول إلى نقطة النهاية. وهذا التشبيه يعني أن إيقاع القصة القصيرة يتميز بالسرعة، وإيقاع الرواية يتميز بالبطء.
القارئ الذواقة للأدب سوف يستمتع بالإيقاع البطيء المتمهل للرواية، كقدر استمتاعه بالقصة القصيرة ذات الإيقاع السريع اللاهث.
يبدو أن رواية «الحاج مراد» للروائي الروسي ليف تولستوي التي كتبها في أواخر حياته بعد أن نضجتْ تجربته الروائية تماماً هي الأنموذج الأكثر كمالاً فيما يتعلق بضبط الإيقاع الروائي.
يبدأ تولستوي روايته بمقدمة قصيرة من ثلاث صفحات، يخصصها للحديث عن قطف الزهور! وبعد ذلك يفتتح الرواية بهذا المقطع: «حدث هذا في أواخر عام 1851. في مساء بارد من مساءات شهر تشرين الثاني وصل الحاج مراد إلى قرية محكت الشيشانية الملفعة بدخان الروث الخانق».
يتصرف تولستوي روائياً وكأنه سلحفاة، ويزحف ببطء محسوب نحو هدفه. هذا التمهل للتأمل هو فن بحد ذاته، وقليلون من يتمكنون من إجادته.
حتى عندما يذهب (الحاج مراد) للبيات عند أحد أصدقائه فإن تولستوي يكتب ببطء سلحفاة، ويصف بدقة محتويات الحجرة وأثاثها وكذلك يرسم متأنياً شخصيات كل من يدخل ويخرج إلى هذه الحجرة. وفيما بعد سوف يتبين لنا أن هذا المسح السردي للمكان وللوجوه له دور مركزي في الرواية، فهو يُهيئنا لفهم من هم الشيشانيون وكيف هي معيشتهم ولماذا يتصرفون في الرواية على ذلك النحو.
قد يحتج البعض ويقول إن الروائي المعاصر لم يعد بحاجة لتكديس هذا الكم من التفاصيل.. والجواب هو إن فعلتَ ذلك وعَبَرْتَ الحقل بسرعة الأرنب ولم تلفتْ نظركَ الزهور، وجعلت (الحاج مراد) يرتمي على فراشه يشخر نائماً دون أن يلم بشيء مما حوله، فأنت تكتب قصة طويلة، وهذا ليس عيباً، فالقصة لها أيضاً عظمتها وجمالياتها، ولكن الرواية فن مختلف تماماً، وله أصوله، وعلى وجه الدقة: إيقاع بطيء يشبه الإيقاع المستخدم في الموسيقى الهادئة التي يمكنك أن تستمتع بها لساعات دون أن تمل.
copy short url   نسخ
22/05/2018
3073