+ A
A -
الخرطوم- الوطن- محمد إسماعيل
الشاعر والروائي والمترجم جمال الجلاصي أحد الاسماء التونسية اللامعة في سماء الكتابة الادبية والترجمة، وهو من المثقفين المنفتحين على التجارب الكتابية المتنوعة عربيا وعالميا، وشاعر من طراز فريد من مجموعاته الشعرية «لا مجد لصوتي خارج أغنيتها» و«أعشاب اللغة»، وفي الرواية له «الأوراق المالحــة» و«باي العربان» التي حصل عنها على جائزة لجنة تحكيم مهرجان «كومار الذهبي» للرواية التونسية.
كما ترجم الجلاصي الأعمال الشّعرية الكاملة لليوبولد سيدار سنغور «الزنوجة ثلج آخر في اللغة الجديدة»، ورواية:الإله الصغير عقراب» لروبرت إسكاربيت، ورواية «إضراب الشحاذين» للكاتبة أميناتا ساو فال، ورواية «السيد الرئيس» للكاتب الغواتيمالي ميغيل أنخيل أستورياس.
لك عدة ترجمات من أهمها ترجمتك للأعمال الشعرية الكاملة للشاعر السنغالي ليبولد سنغور، كما ترجمت لاستورياس اضافة إلى اضراب الشحادين لاميناتا ساو هل تعتقد أن ترجماتك لعبت الدور المطلوب في تعريف القارئ العربي بالمنتوج العالمي؟
- إنّ المترجم في رأيي حلقة صغيرة في هذه السلسلة التي لا تنتهي للتقارب بين الحضارات والشعوب وهو يقوم بدوره في انتقاء أعمال إنسانية تبشّر بالخير والجمال والعدالة، وهو بذلك يؤدي واجبه تجاه الأدب وتجاه الإنسان.
ما الخلاصة التي خرجت بها كمترجم لأعمال قمت بترجمتها؟
- الخلاصة هي أن الأدب الحقيقيّ هو ذلك الأدب الذي يخلّد المشترك الإنساني من خلال تصوير الخاص والمحلّي. الأدب هو ذلك المحيط الهائل العميق التي تصبّ فيه الأنهار الصغيرة المتسرّبة من خلال سفوح الجبال والغابات الأزلية.
هل ترجمة الشّعر، تحدّ دائم وعمل مفتوح للاجتهادات والتحديات؟
- ترجمة الشعر في رأيي لا يمكن أن تكون سوى من قبل شاعر، يؤمن بأهمّية كلّ كلمة ونفس وصمت داخل القصيدة، وهذا هو التحدّي الحقيقي بالنسبة للمترجم. ولكن علينا أن نؤمن بالمقابل أنّ الشعر في أساسه ترجمة لتلك المشاعر الإنسانية العميقة، لذلك فإنّ كل ترجمة هي إعادة كتابة لتلك المشاعر. فالأساس هو ترجمة المشاعر والقيم والمبادئ التي تحويها القصيدة مع المحاولة الدّائبة للمحافظة على الإناء – الشكل التي صُبّت فيه تلك المشاعر والقيم والمبادئ.
وصف بوشكين المترجمين بخيول التنوير هل مازالوا؟
- الترجمة فعل حبّ ورسالة. أقوم بها لأمنح النصّ المترجم جناحاً إضافيّاً.. أنا أترجم ما أعشق. ولا أهتم بالاسم كبيراً كان أم صغيراً، لا أهتم إن كان شعراً أو رواية أو قصّة قصيرة. أترجم ثمّ أبحث عن ناشر مجنون مثلي لننشر الكتاب ونقتسم الفرحة والخسارة.. المهمّ هو أن تقتنع بالكتاب، فأحيانا يقترح عليك أحدهم كتاباً فتسعد به لأنّه يفتح لك طاقة جديدة لم تكن تتصوّر أنّك بالغها حتى تبدأ بتفكيك رموزها. التّرجمة حافزها التّحدي المستمرّ، والرّغبة التي لا تفارق المترجم ـ مهرّب الأرواح.
سيظل المترجمون خيول التّنوير وستظل التّرجمة دبلوماسيّة الحضارات والمترجمون مهرّبي أرواح إخوتهم البعيدين. التّرجمة التي تخرج الإبداع من ضيق أنهار اللّغات إلى محيط التّواصل الإنساني الرّحب. كان وسيظل هناك مرتزقة وسيظل هناك صانعو أجنحة ومترجمون هواة يفتحون لنا آفاقا أخرى عبر تهريب النّصوص الإنسانيّة، وهي في الحقيقة لمسة شكر لمبدعين أحببناهم واستضفناهم في حضارتنا ليس عبر تحويلهم للغتنا بل عبر تطويع لغتنا لكي تكون وعاءً لأرواحهم وأفكارهم.
صدرت أغلب أعمالك عن دار أروقة القاهرة – هل ترجمت بناء على طلب دار نشر أو مؤسّسة؟
- أنا عادة لا أترجم بناء على طلب مسبق من دار نشر أو مؤسسة باستثناء مشاركتي في ترجمة موسوعة الشعر الفرنسي الذي تشرف عليه مشروع كلمة في أبو ظبي وهو مشروع عملاق يهدف إلى تعريف القارئ العربي إلى مدوّنة شعرية متكاملة. كما يهدف إلى تمكين الباحثين العرب من مادّة جاهزة ومضمونة الجودة. لمتابعة بحوثهم ودراساتهم للشعر الفرنسي بنظرة شمولية لم تتوفّر في أيّ لغة أخرى.
تعاملي مع مؤسسة أروقة للدراسات والنشر كان نتيجة اقتناعي بالمشروع الثقافي الذي ترفعه هذه المؤسسة والتحديات التي ترفعها من أجل نشر ثقافة بديلة والروح المغامرة التي يتحلى بها القائمون عليها ودعم الثقافة العربية التقدّمية. مؤسسة أروقة مؤسسة ثقافية لا يعنيها الربح ولا المكسب، وقد قامت خلال تجربتها التي امتدت على عشر سنوات بالتعريف بعشرات الشعراء الشباب والقصاصين والروائيين والمترجمين العرب، وكذلك الدّارسين في مجالات الدّراسات الأدبية وعلم الاجتماع وعلم النفس. وهذا هو في رأيي الدور الحقيقي لدور النشر التي تحترم نفسها ورسالتها.
هل ترى نفسك كمثقف مغاربي أنك أخذت حقك في الظهور باعتبارك مترجما وروائيا وشاعرا؟
- في الحقيقة المسألة ليست شخصيّة، نحن جيل التسعينيات في تونس نعتبر أنفسنا جيلا ورث المنجزات الأدبية العربيّة والعالمية، وعشنا تحت نير استبداد بن علي وعرفنا الإقصاء والتعتيم الإعلامي منذ بداياتنا، والحقيقة كان علينا أن نقف مع بعضنا كجيل ونتكاتف حتى نرفع هذا التعتيم والحصار. بعد الثورة اختلف الوضع، بحكم فتح الأبواب أمام المبدعين كي يعرّفوا بإنتاجاتهم. ولكن الحقيقة هي أنّ الحراك النقدي في تونس مقصر جدّاً تجاه المبدعين التونسيين وخصوصا الشبان منهم.
روايتك «الأوراق المالحة» ما هي المرحلة المهمة التي اشتغلت عليها وهل هي رواية تجريب؟
- رواية «الأوراق المالحة» التي نُشرت سنة 2004، وكانت رواية هموم الجيل والمرحلة، رواية تهشّم الأحلام الكبرى في الوحدة والعدالة الاجتماعية
ما رأيك في الأدب النسوي؟
- ليس هناك أدب نسائي وأدب رجالي... هذا رأيي هناك أدب إنساني. أمّا الأدب النسوي الذي ينتصر إلى قضايا المرأة والدّفاع عنها فيمكن أن يكتبه الرجل مثل المرأة تماماً.
هل ترى ان الرواية قادرة على تقصي الاحداث وهل لها المقدره على ذلك؟
- الرواية جنس أدبيّ شاسع كسفينة نوح، يحوي الواقع والخيال وحمّال أجناس أخرى فالرواية بإمكانها حمل الشعر والقصة والمسرح وحتى التنظير الفكري والسياسي والأدبي، ويكفي أن نقرأ ثلاثية حنّا مينا (حدث في بيتاخو، عروس الموجة السّوداء والمغامرة الأخير) حتى نتفطّن إلى شساعة هذا الجنس الجبّار الذي أراه يعوّض الملحمة في عصرنا. الرواية أوديسا هذا العصر.
بدأت روائيا ثم اتجهت للشعر ثم الترجمة، أي الأجناس الابداعية اقرب اليك؟
- أعتقد أن فعل الكتابة الإبداعيّة كلّ لا يتجزّأ فالتّعبير شعراً أو قصّة أو مسرحاً هي أوان مختلفة الشّكل لكنّ الماء واحد، فقد بدأت في أواخر الثّمانينيات بنشر أولى قصصي القصيرة وقصائدي في الصّفحات الثقافية للجرائد والمجلاّت التونسيّة. وفي أواسط التّسعينيات حينما بدأ أبناء جيلي في نشر أولى دواوينهم ومجاميعهم القصصية بدأت أكتب «سرّيّا» رواية «الأوراق المالحة» التي نُشرت سنة 2004، وكانت رواية هموم الجيل والمرحلة، رواية تهشّم الأحلام الكبرى في الوحدة والعدالة الاجتماعية. وبالتّوازي كنت أحاول ترجمة بعض النّصوص الشعرية لشعراء فرنسيّين أمثال بودلير ورامبو وفرلين وبول إيلوار وغيرهم وكنت أكتفي بقراءتهم في حلقات ضيّقة للأصدقاء، أو في الملتقيات الأدبية لشعراء التّسعينات التي ستمثّل النّواة الأساسية لمستقبل الحركة الأدبيّة في تونس كما في مختلف أقطار العالم العربي رغم اختلاف التّسميات. ونشرت في الأثناء مجموعتي الشعرية الأولى «أعشاب اللّغة» سنة 2007 عن دار إنانا للنشر، ثم ديوان «الإقامات» عن منشورات وزارة الثقافة الجزائريّة.
ثم كان العروج نحو التّرجمة باعتبارها دبلوماسيّة الحضارات وقارب تهريب أرواح إخوتنا وأخواتنا الشّعراء البعيدين واستضافتهم في حقل لغتنا العربيّة. فنشرت تباعاً «السّيد الرئيس» لأستورياس الحائز على جائزة نوبل للآداب، و«إضراب الشّحّاذين» للرّوائيّة السّنغالية أميناتا ساو فال عن مؤسسة أروقة للدّراسات والترجمة والنّشر، القاهرة 2011 و2013. ثم الأعمال الشعرية الكاملة للشّاعر الرّئيس ليوبولد سيدار سنغور عن الدار التونسية للكتاب. ثم نشرت دار الجمل الطّبعة الثانية من السّيد الرئيس سنة 2015 ورواية «الإله الصّغير عقراب». وأنا أعمل حاليّا على ترجمة مختارات من الشّعر الفرنسي من القرن السّابع عشر حتى بدايات هذا القرن ضمن مشروع ضخم تموّله مؤسسة مشروع كلمة تحت إشراف المترجم والشّاعر العراقي كاظم جهاد. وقد انتهيت من ترجمة كتابين: مختارات ألفريد دي موسسيه وألفريد دي فينيي، وهما من شعراء القرن التّاسع عشر ومن رموز المدرسة الرّومنسيّة. وأنا منهمك الآن في ترجمة عمل روائي إفريقي للرّوائي أحمدو كوروما «الله ليس مجبراً» لمؤسسة أروقة للدّراسات والترجمة ولنشر.
قلت في حديث سابق أن على الشاعر أن يقرأ الرّواية وكتب علم الاجتماع وعلم النّفس والتّاريخ والفلسفة، فالكتابة الشّعرية الخالية من الثقافة الشّخصية للشاعر تكون عادة سطحيّة؟
- الشاعر، والمبدع عموما عليه أن يرضع من أثداء كثيرة كي يكون إبداعه معبّراً عن عصره، وإن كتب الكتابة التاريخية. الشاعر الذي لا يعبّر عن آلام عصره وآماله وهمومه وطموحاته، سيكون كمغنّ في مأتم.
أعتقد أن الشّاعر عليه أن يقرأ الرّواية وكتب علم الاجتماع وعلم النّفس والتّاريخ والفلسفة، فالكتابة الشّعرية الخالية من الثقافة الشّخصية للشاعر تكون عادة سطحيّة «مشاعريّة» خالية من العمق المعرفي الذي تتطلّبه قصيدة النّثر الحداثيّة. كما أن الرّواية تكسب الشّاعر سمة السّارد وخاصة في جانب اهتمامه بالتّفاصيل واليوميّ. طبعاً الرّواية التي لا تتعلّم من الشّعر شفافيّة اللّغة والصّور والتي لا تُحلم القارئ بطيران اللّغة لم تعد تشدّ القارئ الجديد المطّلع على آداب الحضارات الأخرى التي تمتزج فيها الرّواية لشتّى أنواع الفنون الكتابيّة الأخرى لتتحوّل الرّواية في رأيي إلى «أم الكتابة»، أو الكتابة الجامعة.
حدثنا عن المشهد الثقافى في تونس قبل وبعد الثوره؟
- أعتقد أنّ الواقع الثّقافي في تونس مشابه لأغلب ما نشاهده في عالمنا العربي: الحراك الإبداعي والغليان الشعري والرّوائي وغياب شبه كلّي لحركة نقدية مواكبة أو موازية، وذلك البرج العاجي الذي تعيش فيه جامعاتنا ونقّادنا إلاّ من رحمه وعيه. في الحقيقة أسماء كثيرة من أجيال مختلفة، برزت في هذه السّنوات القليلة الماضية أضافت وأضاءت المشهد الإبداعي في تونس فحين أقول حسين الواد أو كمال الرياحي أو شكري المبخوت أو شفيق الطارقي الحاصل على جائزة دبي الثقافية للرّواية، أو أم الزين بن شيخة، حين أقول محمد علي اليوسفي وآدم فتحي وفتحي المسكيني وعلي مصباح في التّرجمة، وفي الشعر المنصف الوهايبي ويوسف رزوقة ومحمد الغزي عبد الوهاب الملوّح وشكري بوترعة ويوسف خديم الله، وجيل جديد يضجّ إبداعاً: محمد العربي أمامة الزاير محمد الحباشة عزوز الهاشمي. إن هؤلاء المبدعين وغيرهم كثرٌ هم من قاوموا مع المسرحيّين والسّنمائيين المشروع الإخواني وأحبطوه، وهم الآن يحاولون أن يصلحوا ما أفسدته الحسابات السّياسيّة والمصالح الحزبيّة الضّيقة من أجل تونس متنوّعة متعدّدة تتّسع لكل أبنائها الذين يحبّون الحياة لهم ولغيرهم.
في الحقيقة ظلّ المشهد الإبداعي في تونس مرتبطاً أساساً بالحركة الشعرية التي شهدتها تونس منذ حركة الطّليعة الأدبيّة، التي تمكّنت من كسر أفق تلقّي القارئ وجعلته يتقبّل المختلف عمّا تعوّد عليه من شع كلاسيكي. ثم تلاها جيل بداية الثّمانينات، وهو جيل الذي تربّى جيلي على نصوصه وتصوّراته للإبداع، وبالتّوازي معه تقريباً ظهرت حركة سرديّة (قصة قصير ورواية) مع أسماء لمعت لكنّها لم تحقّق التّراكم الكمّي المطلوب لتكون تجارب روائيّة هامة باستثناء قّلة منهم حافظ محفوظ وعبد الجبار العش ومحمد علي اليوسفي وفرج الحوار ومسعودة بوبكر وآمال مختار وغيرها من الأسماء، لكنّي أعتقد وهذا ليس انتصاراً أعمى لجيلي أن القفزة الحقيقية للأدب التونسي كانت مع جيل التّسعينات الذي تحول الآن إلى مدار الحركة الإبداعية في تونس شعراً ورواية. فهذا الجيل الذي رضع من أثداء متعدّدة وعاش عصر الهزائم وانهيار الأحلام العظيمة لليسار في العالم، ظلّ حالما بتلك المثل حاملا لتلك القيم، لم يكن وفيّاً لمدرسة بعينها بقدر ما كان وفيّاً للتّجريب والمغامرة، هذا الجيل الذي كبر أغلبه في ظلّ ديكتاتوريّة بن علي وانقسم على نفسه، فشق حاول بشتّى الطرق أن يحافظ على مبادئه واستقلاليّته وظلّ مهمّشاً بعيداً عن الأضواء محروماً من الدّعم والانتشار كلنّه ظلّ معادياً للديكتاتورية والظلامية، وشق غمّس قلمه في حبر الانتهازية والوصوليّة وكتب قصائده ونصوصه كما يكتب تقاريره عن زملائه!
هل أنت متابع للادب السودانى؟
من لا يتابع الأدب السوداني اليوم كمن يعيش خارج التاريخ. فالأدب الذي ينبع من السودان، أدب حقيقيّ ينضح واقعيّة وإنسانيّة. أساسا أنا مهتمّ بالأدب الأفريقي وأعتبره خزّان الإنسان الأوّلي فما بالك بأدب شقيق. من توقّف عند الطيب صالح والفيتوري حرم نفسه من معرفة تجارب عميقة أمثال إبراهيم إسحاق، محمود مدني، عيسى الحلو، مختار عجوبة، علي المك، بشرى الفاضل، عبد العزيز بركة ساكن. طبعا بالإضافة إلى شعراء أفذاذ بالفصحى والدارجة السودانية العذبة ولعلّ أقربهم إلى قلبي الشاعر الرّاحل محجوب شريف الذي صدّرت دراستي حول «أدب السجون في الأدب الإفريقي».
copy short url   نسخ
21/05/2018
5214