+ A
A -
كان صوت فيروز يشاغب صمت الهواء ذات يوم نيساني قبل رحيل الشمس بقليل، في صوت فيروز شيء يشبه التذكر الحزين، أو الحنين المحرم إلى العبث الطفولي بالثوابت، أو الاعتراف السري بالرغبة في الهروب إلى اللاشيء واللازمان، ذهب إحساسي إلى واحد من الأشياء الساكنة في صوت فيروز دون أن أستطيع تحديده، والتحديد نوع من الغباء في التعامل مع الحياة لأنها ابنة الممكن وأمه، المهم لن أبتعد كثيراً عن صوت فيروز، ذلك الصوت الذي فاجأني بنداء خفي يقول لي.. لا تنتظر..، سكت النداء الخارجي، لكن نداء داخلياً تردد كالصدى في حضن وادٍ بعيد.

حياتي مجموعة مواعيد انتظرتها ولم تأت، جاءتني بدلاً منها مجموعة هزائم، عرفتُ عن طريق إحدى هزائمي أن الانتظار هو الأب الروحي للألم، لذلك كانت أمي حزينة دائماً حتى وهي تصلي، وكانت تتألم دائماً حتى في مواسم الأعراس، أمي من أكثر الأمهات انتظاراً، انتظرت تحسن الأحوال، لكن لم يتحسن الحال، انتظرت عودة إخوتي من شبابيك الكَرْم، لكن الدوالي لم تنبئ عصافير الكروم عن عودة أحدهم، انتظرتْ أن تتغير نوعية الأخبار التي يحرص أبي على الاستماع إليها من إذاعاتنا العربية، لكن تلك الأخبار ازدادت سوءاً يوماً بعد يوم.

الانتظار بقاء في حيز المفعول به وليس في مكان الفاعل، خاصة إذا لم تفعل ما يجعلك تنتظر النتيجة، ونحن ننتظر منذ مقتل عبد القادر الحسيني أن ينتصر صوتنا الذي لا نملك غيره في ساحات الأمم، تلك الساحات التي لقنتنا دروساً في ضرورة فهم نوع انتظارنا دون أن نفهم شيئاً، انتظرنا أن يعلو صوت الحق، وأن تعود الحقوق التي ضاعت رغم تمسكنا بمفاتيح المنازل التي لم تعد لنا، ولم تعد موجودة، انتظرنا نتائج قممنا التي لا تصل إلا إلى عددها المتزايد ونتائجها المعتادة، انتظرنا نتائج انتخاباتهم علها تمدنا ببعض الدموع على قبور شهدائنا، لكن نتائج انتخاباتهم كانت أقل بشاعة من نتائج انتظارنا.

لا تنتظر من أحدٍ أن يشعر بوجعك الساكن بين قلبك والأنين، مهما ضاقت المسافة بينكما، الإحساس بالذات في ديارنا يقتل الإحساس بالآخر، لا آخر في بلادنا أو في أغانينا أو سياستنا أو ألعابنا، تتكرر افتتاحية الموت التي قتلت هابيل وكليب وما زالت تقتل أطفالنا الذاهبين إلى أحلامهم، لا تنتظر يا صديقي ممن لا يعرف ماهية الحُب أن يهبك مشاعره الخاوية من أي معنى سوى هيجان الغرائز، ولا تنتظر ممن تعلم مع الحبو أن يكره ويجرح ويؤذي ويكذب ويشتم، لا تنتظر منه أن يهتم بمعرفة معنى النزاهة في الكلام، فكيف في الانتخابات؟!.

لا تنتظر مكاناً يحتويك في أسواق الدنيا، كل واحد ممن تراهم واقفين حولك يريد أخذ كل الأمكنة، والاستيلاء على كل الهواء والقصائد والينابيع والنساء والشوارع وولائم النفاق، خذ مكانك الذي تجده وتمسك به، لا تنتظر من يمنحك خبزاً دون تنازلات أو عسلاً دون استسلام غير مشروط، الانتظار على أرصفة الدنيا عبارة عن هدر للزمان وتضييع للمكان وموافقة على التنازل عن الوجود الممنوح لك من خالق الناس والأمكنة والأزمنة.

لا تنتظر ممن يخبئ في قلبه غباراً وعتمةً وشظايا إحساس، أن يبادلك حباً وبوحاً واعترافاً بأخطاء العمر، المنتظِر لا يكون في الصفوف الأولى أبداً ولا يحصل إلا على ما تبقى، لأنه مثل صدى الصوت يأتي تابعاً ومقلِداً ومكرراً، والمنتظِرون لا يستطيعون قيادة شيء، بل يقودهم أي شيء حتى لو كان كلام العرافين وضاربي الودع، لذلك أقول لك يا صديقي ما أقوله لنفسي....لا تنتظر.
copy short url   نسخ
26/04/2018
3889