+ A
A -
الحبُّ يستحقُّ أنْ نحتفلَ به طولَ العُمْر، وأنْ نجعلَ حياتَنا كلَّها عِيدًا له، لكنْ ينْبَغي التنْبيهُ إلى أنَّ الحبّ أقدس، وأطهر، وأنْبل منْ أنْ يُرْهَنَ ويُخْتَزَلَ الاحْتفاءُ به، بمناسبةِ اغتصابِ قسيسٍ يُسَمَّى «فالنتين»، لابْنةِ المَلِكِ في عهْدِه، فأعْدَمَه انتقامًا لشَرَفِه، وجزاءً لعهْرهما، أليْسَ فِي تاريخنا الإسْلامي، وحتَّى العربي الجَاهِلي، ما فيه نماذجُ للحُبِّ الطاهرِ، العفيفِ، تستَحقُّ الاحْتفاءَ، فنُسَمِّيهِ-إنْ كانَ لا بُدَّ- عيْد قيْس ليلى، أو يومَ جميل بثينة... إلى غيْرِ ذلك من أبطالِ أساطيرِ الحُبِّ عند العرَب، اسْتثمارًا في فلسفة الحُبِّ المُقدَّس، وإقلاعًا عنْ مُسْتنْقعات الحُبّ المُدَنَّس، السائدةِ اليوم، في عصْر عوْلَمَة العُهْر، والقبْح، والكرَاهية.
إلَى مَتَى نَظَلُّ مُنْخَرِطِينَ في إمَّعِيَّتِنا الحضارية، وكأنَّ قدَرَنا أنْ نسْتوْردَ كُلَّ شيْءٍ من الغرْب، ونحْن مُغْمَضُو البَصَر، مسْلوبُو البَصيرة، مشْلولُو التفْكيرِ، حتَّى فِي مَجَالِ الحُبِّ، الذي يُفْتَرَضُ فينا أنْ نَكُونَ أُمَّتَه الأولَى فِي جَاهِلِيتنا وإسْلامِنا، فقديمًا كانَ العَرَبُ -رغْمَ العنْفِ البَدَوِيِّ الظاهر- أمَّةً يَفْعَلُ فيها الحُبُّ أفاعِيلَه، بحيث يَخْتْرِقُ شِغَافَ الفُرْسانِ الأشاوِسِ، فيَمُوتُونَ من أجْلِه ويَحْيونَ، بَهشاشةٍ عاطفيةٍ باطنيةٍ، لا تُناقِضُ صلابَةَ المَظْهَر الفُروسِيّ، حتى لدَى عنترة بن شداد، وغيْره من صعاليك العرَب وسَادَاتِها على السَّواء، وحِينَ جاءَ الإسلامُ اعْتَمَدَ الحُبَّ وإشاعَتَه- بمَفْهُومِه الإنْسانِيّ الشامِلِ- رُكْنًا أساسيا من العقيدة، بحيث لا يَكْتَمِلُ إيمانُ الفرْدِـ حتَّى يُحِبّ لغيْره ما يُحِبّ لنفْسِه، وكرَّسَ حُبَّ الجَمَال عموما، وجمال المرْأة خُصوصا، جسَدا ورُوحا، وعنْدما تفاعَلتْ ضوابطُ الأَعْراف الجاهِليةِ المُحَافِظَةِ على الشرَفِ والعِرْضِ، معَ ضوابطِ الإسلام...مَاتَ كثيرٌ من شُعَرَاءِ العشْقِ المُؤسْطَرين في قصَصِ حُبِّهمْ العَفيفِ العُذْرِيّ القاتل.. الذي سَلَبَهَمْ حتى أسْماء آبائِهم، ونَسَبَهم القَبَلِيّ الأصيل، فارْتَهَنَتْ هُوُياتُهم بأسْماء حَبيباتهم، واخْتُزِلتْ كيْنوناتُهم في النِّسْبَة إلى عرائسهم الشِّعْرية، مثل العاشقيْن المَذْكوريْن آنِفا، إضافة إلى «عرْوة عفْراء»، و«قيس لبْنى»، و«كثير عَزَّة»، وغيْلان مَيَّة....
وبَعيدا عنْ تَقَمُّصِ تاريخ الحُبِّ العاهِر الفاجِرـ سوَاءً كانَ باسْم أسْطُورَة «فالنتين» الغرْبِيةِ، أو أسْطُورة «أسَاف ونائلة» العَرَبِية الجاهلية، وبعيدًا أيْضا عنْ تَقَمُّصِ رُمُوزِ الحُبِّ العَرَبِيّ الإسلامي العَفيف الطاهر، ابْتداءً من «مُغِيثٍ وبُرَيْرَةَ» في العهْد النَّبَوِيِّ الشريف، مُرُورًا بالمَدْرَسَةِ العُذْرِيَّةِ في العصْر الأمُويّ، وحتى رُمُوز الحُبِّ الإلهيّ، من «رابِعة العدوية»، إلى «ابن الفارض»، إلى «ابن عربي» الذي أعْلنَ أنَّه يَدِينُ بدِينِ الحُبِّ أنّي تَوَجَّهَتْ رَكائبُه... بَعيدًا عنْ كُلِّ تلك التداعياتِ أرَى أنَّ الحَديثَ اليوْمَ عن «عِيدِ الكُرْهِ» أكْثرَ واقِعِيةً -فِي الغرْب، والعَرَبِ معًا- مِنْ دعْوَى الاحْتفالِ والاحْتِفاءِ بـ «عِيدِ الحُبِّ» المَزْعُوم... فالجميعُ يَمْخُرُ عُبَابَ هذا الزمَن الرَّدِيء، الذي وَصَفْتُه ذاتَ مَرَّةٍ بعَصْرِ عَوْلَمَةِ الكراهية، حيْثُ تَكَادُ صِناعةُ الموْت– في حَضارَة الزّرِّ- تتَفَوَّقُ على صِناعة الحياة، وحيثُ يَطغَى على مَفْهُومِ الحُبِّ طابعُ التدْنِيس، بَدَلَ حُمُولة التقديس، بَعْدَما أفْرِغَ من رَوْحانِيتِه، واخْتُزِلَ فِي بُعْدِه المَادِّي الغَرِيزي، الذي يَتَقاسَمُه الإنْسانُ حَتَّى مَعَ أخَسِّ الكائناتِ الحَيَّةِ..
فعَنْ أيِّ حُبٍّ نتحدَّثُ، وبأيِّ عيدٍ نحْتفِلُ، أو نحْتفِي، وأوْطانُنا العربيةُ المَسْكونَةُ بحُروبٍ «البَسْوس»، و«داحِس والغبْراء»، وذهْنية» دُول الطوائف»-غارقةً في طوفان الكراهية، وأعاصيرِها القادِمَةِ مما ورَاءَ البِحَارِ، منْ موْطنِ الـ «فالنتين»، و«عيد الحُبِّ» المَوْهُوم، من تِلْقاءِ العالَمِ الغرْبي، المسْكون بعقيدةِ «حُرُوبِه الصليبية»، وحمَلاتِه «الاسْتعْمَارية»، حيث تحالفتِ النزْعَتَانِ العُدْوَانِيتانِ المُتأصِّلتانِ في العقْليْنِ الباطنيْنِ لكلٍّ من العالميْنِ: الغرْبي والعرَبي، حتَّى لا صوْتَ -اليوْم- يعْلو- فِي هذا المُنْعَرَجِ الحادِّ الخطيرِ، منْ حضارَتنا الميكانيكية- فوْقَ أصوات قرْعِ طُبُول الحرْب، بدل قرَعَ طبولَ الحُبِّ.
وهكذا، لنْ تكونَ هُنَاكَ عِيدٌ حَقِيقيٌّ للحُبِّ تسْتشْعِرُه الإنسانيةُ، مِلْءَ وجْدانِها ووُجُودَها، ما لمْ نجْعلْ حرْبَنا المُقَدَّسَةَ الآنَ ضد «راءِ» الحرْب نفْسها، لتدْميرِ جِدارِهَا المُعْتَرِضِ بيْنَ حرْفَيْ الحُبِّ، حتَّى يلْتَقِيا على أمْرٍ قدْ قُدِر، ولنْ يكونَ ذلك إلا بإشاعة «الحاء والباء» بيْن الناس، عُمْلَةً رائجةً للتعامُلِ الإنساني، فهيا – معي- نُعْلنُ «تَحالُفَ الحَضاراتِ»- في الحَرْبِ العالمية الثالثة، عبر نشيدي هذا:
إنِّي أحَارِبُ رَاءَ الحْرْبِ مُذْ زَمَنٍ
لأسْقِطَ الحَدَّ.. بيْنَ الحَاءِ.. والبَاءِ
الحُبُّ.. سِرٌّ.. عظيمٌ.. مَنْ تأبَّطَهُ
تَمَلَّكَ الحَاءَ.. بيْنَ السِّينِ.. والرَّاءِ!
copy short url   نسخ
19/02/2018
4141