+ A
A -
للامبراطوريات شروطها التي تذعن لها الدول فتصبح مستقرا في العلاقات الدولية. لا تحيد عن ذلك كل الدول، صغيرها وكبيرها. فالامبراطوريات لا تتراجع عن سياسة جربتها، خصوصا اذا كانت هذه السياسات نتاج صياغة لمراكز دراسات تضع العالم بتفاصيله تحت مجهرها البحثي الذي يختزل فكر وسياسة الامبراطورية. تلك هي الولايات المتحدة الأميركية الامبراطورية غير المسبوقة في التاريخ قوة وحضورا.
فالولايات المتحدة تستحوذ على ربع الناتج العالمي. والثروة الاميركية لا تعني ما في باطن الارض، بل وما ينتجه العقل الاميركي. هذا الرقم الفلكيّ ينعكس هيمنة ونفوذا لا سابق لهما في التاريخ. هذه الحقائق دفع واشنطن إلى ممارسة «أُبوّة» تجاه عالم اليوم، عبر لعب دور الضامن لاستقرار الاقتصاد العالمي، الذي لا يشمل الاقتصادات المشوّهة والتابعة في غالبية دول العالم الثالث. فهذه قدرها أن تبقى اسواقا للاقتصادات الكبرى، وخصوصا الاميركي.
واشنطن وبقوة هيمنتها قد تنحو، منحى متطرفا كما حدث إبّان عهد المحافظين الجدد أو في عهد دونالد ترامب حاليا.
يتراءى لدول كثيرة في العالم الثالث، ومنها دول عربية أنها تقع في موقع الحليف للولايات المتحدة، في تسطيح أو تعمية لواقع سياساتها التبعية. الدولة العميقة الاميركية صاغت مقاربات استعمارية محدّثة جدا، حتى لا يبدو الاستعمار استعمارا في ظاهره، بل صيغة من علاقات الرأفة والعون الانساني، وهو ما تعبر عنه المساعدات الاميركية لدول العالم الثالث الفقيرة. ومن المظاهر الفاقعة لنمذجة الاستعماري الجديد، ان يقف مسؤول أميركي إلى جانب مسؤول في دول تابعة، ليقول ان واشنطن تقدر الدور المحوري الذي ينهض به هذا البلد في خدمة الأمن والاستقرار العالمي والإقليمي. في هذه الوصفة التي يصرفها المسؤولون الاميركيون وهم يضحكون في دواخلهم، كثيرا من الطابع الفضائحي لنهج التبعية والانقياد لواشنطن وسياستها التي تسلح دبلوماسيتها بمصطلحات تحتمل كثير من الاطناب في المدح للسياسة هذه الدولة العالمثالثية أو تلك. طبعا يستخدم المدح الاميركي في البروباغندا الديماغوجية داخل بلدان العالم الثالث لاقناع الراي العام والتاثير فيه تعزيزا للصورة الايجابية لسياسة البلاد التي تستحق المدح الاميركي الذي يخدم مصالح الامبراطورية في مناطق الحساسية الاستراتيجية. لم تبن الولايات المتحدة نفوذها على اساس إنساني ينحاز للشعوب المكافحة من اجل تحررها من قبضة الحكومات التابعة للمركز الاستعماري الكوني، بل قامت السياسات الاميركية اساسا على انقاض المستعمرين السابقين الذين تركوا رصيدا غنيا في التفنن في إدارة المستعمرات السابقة التي وجدت نفسها في قبضة مستعمر من طراز مختلف.
اميركيا، صارت حرية الدول تعني استجابتها لتحقيق مصالح الامبراطورية وسياساتها، أي التبعية والانقياد التام. وحرصت واشنطن على توفير هامش لـ»حلفائها الفقراء» في مشاكسة أو حتى معارضتها، خصوصا في مناطق الصراعات الحيوية. تفسح واشنطن لهؤلاء أن يقولوا ما يرضي شعوبهم، لكنهم في نهاية المطاف لا يخرجون عن اهداف السياسة الاميركية والا اصبحوا اعداء ينتظرهم مصير مانويل نوريغا في بنما. تتحفنا الصحف الاميركية باقوال لساسة أميركيين كبار يؤكدون ان سياسة هذا البلد العربي مثلا تخدمنا في الموضوع الفلسطيني، بل ان كثيرا من التصريحات الاميركية تؤكد ان المسؤول العربي يقول لنا اشياء تخدمنا وانه لن يخرج عن خدمتنا، اما ما يصرح به هذا المسؤول أو ذاك لشعبه فهو من قبيل ارضاء الميل العام لشعبه المغلوب على أمره. هذا ما حدث عشية احتلال العراق وتدميره وهذا ما يحدث وسيبقى ما دام الصراع العربي- الصهيوني مستمرا، ذلك ان هزائم الامم الكبيرة كالأمة العربية لا تكون إلا كبيرة، واساسها ومبتداها سرطان داخلي يفتك بالوعي العام ويحكم قبضته الأمنية التي تتسلح باعلام ديماغوجي مهمته ضخ مواد إعلامية تزين قبح السياسات القائمة وتلميعها واظهارها بمظهر الوطنية الذائدة عن مصالح البلاد والامة. هذا ما يفهمه الاميركيون جيدا بل وهو المطلوب أميركيا لابقاء المسؤول العربي.
في صورة زاهية ليتسنى له تمرير وتنفيذ الاملاءات باقل الخسائر لصورته. وما التسريبات الاميركية عن صفقة القرن المشؤومة لتصفية القضية الفلسطينية عن انخراط هذا المسؤول العربي أو ذاك في مباركة الصفقة والتطوع في خدمة إسرائيل، الا نزر يسير مما يمليه الاميركيون وتذعن له عواصم عربية كثيرة. وتتضاعف المخاطر على مآلات الصراع حين تنخرط دول عربية لها تأثير كبير في صياغة المشهد في المنطقة التي تقف دائما على مفترق خيارات خطيرة. فتصفية نهائية للقضية الفلسطينية لا يمكن ان تتم لولا انخراط دول التأثير العربي في خدمة المشروع الصهيوني الذي يبدو نصره فاقعا اليوم إن لم تقل الأمة كلاما آخر في غير صالح السياسة الأميركية التي تتبنى تنفيذ المشروع الصهيوني بحذافيره.
copy short url   نسخ
19/01/2018
891