+ A
A -
«المقاومة» متلازمة فطرية لكل كائن حي وجد نفسه في خضم هذه الدنيا؛ حيث يولد مستشعراً ضعفه الوجودي، ونسبية الحياة من حوله، واستحالة الخلود لغير الخالق، فيبدأ في مواجهة عوامل الفناء الحتمي المتربصة به من الداخل والخارج، لتأسيس خلوده النسبي، «لسان صدق في الآخرين»؛ ومن هنا تأخذ مقاومته طابعاً مزدوجاً، بين الذاتي الداخلي، والغيري الخارجي، لا سيما بالنسبة للإنسان، الذي «خلق في أحسن تقويم» متنازعاً بين قبضة من طين، تشده إلى الأسفل، تُخْلِدُ به إلى الأرض، وبين نفحة من روح، تسمو به إلى مصدره العلوي، ليكون تردده بين هذين القطبين هو مجال اختباره وابتلائه، في جدارته بالخلافة في الأرض: هل ينجح.. أم يفشل؟ هل يفضل.. أم يرذل؟ هل يسمو.. أم يسفل؟
ومن هنا تتأطر صفة «الأخلاقية»، التي وسمت بها المفهوم الشامل لـ«المقاومة»، واخترتها زاوية للمقاربة، حيث يبدو تكريس هذا المفهوم- لمقاومة العدو الخارجي- اختزالاً وتسطيحاً، دَرَجَ عليه الناس، حتى أصبح مبتذلاً، لكثرة ما خاضت في لجته الأقلام.. وأنا- بطبعي- أكره مطروقات المواضيع، ومألوفات المقاربات.. لأن اتباعها منافٍ للإبداع، إذ ليس إلا تحصيلاً لحاصل، وتكراراً بدون طائل.. فبدلاً من رصد وقائع وتجليات مقاومة العدو الخارجي، بالمتاح من الأسلحة العادية.. ينبغي أن نسلط الضوء على الوجه الآخر لهذه العملة، فنترصد تجليات البعد الداخلي «للمقاومة الأخلاقية»، التي ينبغي أن تكون ذاتية في البداية، لتنطلق- بنجاح- من الأنا إلى الآخر.. بأسلحة مغايرة، وبأهداف مختلفة.. استلهاما للتوجيه النبوي بنقل المعركة- مبدئياً- إلى الداخل.. داخل أسوار الذات الإنسانية؛ فـ»أعْدَى عدُوِّكِ نفْسُكَ التي بيْن جنْبَيْك»، وعندما رأى الناسَ- مِنْ حوْله- منْبَهِرينَ بالقوة البدنية لرجُلٍ عمْلاقٍ؛ لا يقومُ له أحدٌ إلا صرَعَه، شاءَ- عليه الصلاة والسلام- أنْ يَصْرِفَ ذهنية الجمهور عن تمْجيد القوة البدنية المادية الموجهة إلى الآخر، نحو القوة الروحية الموجهة إلى الذات.. فزلزل قناعاتَهم السائدةَ، نازعًا معْنى القوة العضلية الخارقة من كلمتيْ «الشديد= الصُّرَعَة»، اللتيْن عبأتْهُما بهَا مُواضعاتُ اللغة العربية الجاهلية، ليشْحَنَهما- بعْد تفريغهما- بمعنى القوة الروحية الداخلية، ففاجَأهم بقوْله النافي: «ليْسَ الشديدُ بالصُّرَعَةِ»، وقبْل أنْ يفيقوا من هوْل الصدْمة اللغوية، وكلهم يتساءلُ في داخِلِه مُسْتَعْرِضًا مُعْجَمَه العربي: بادَرَهم باسْتدراك الحُكْم المُذْهِلِ؛ مُكملاً حَديثَه: «إنَّما الشديدُ مَنْ يمْلكُ نفْسَه عنْد الغضَب»، مُؤسِّساً بذلك لمَفْهوم رُوحِي للقوة، في إطار ثوْرته الأخلاقية الجديدة على المفاهيم الخاطئة، حيث ينطلق «الجهاد الأكبر» من محاربة نوازع الغرائز الحيوانية في النفس الإنسانية، لتتخفف من ثقل كتلة الطين الجسدية المثبطة، حتى ترتقي في «مدارج السالكين»، إلى «مراقي السعود»، عبر محاطات الأشواق الروحية العليا، وهذا ما يَفهمه أبطالُ «المُقاومة الأخلاقية» من الناس الصالِحِينَ، في عمَلهم لتصْفية الأرْواح؛ فعبَّرُوا عنْه بمصطلحيْ «التخْلية» من الرذائل، و«التحْلية» بالفضائل.
copy short url   نسخ
15/01/2018
3450