+ A
A -
بقلم- باسم توفيق
في العمق الحقيقي لنقد الفنون التشكيلية منذ بدأت تعتبر الغاية منها هي خدمة الدين والحياة، ومن ثم يعتبر الفن الذي يسخر لخدمة الحياه والبشر مهما كان بسيطاً جزءاً لا يتجزأ من الفن وربما هو الجزء الأكثر تأثيرا في شريحة كبيرة من البشر، حيث المتلقي العادي الذي يجد فيه تطلعاته البسيطة وأحلامه، وربما نقترب هنا من صيغة الفن الشعبي أو ما يطلق عليه الـFOLK ART لكن الحقيقة أن الموضوع أكبر من الفن الشعبي أو الفن الفطري وخصوصا مع الفنان الذي نقدمه اليوم وهو فنان ثري ومبدع عاش حياة صعبة، لكنه ملأ بلاده فناً وبهجة على الرغم من صعوبة الحياة التي عاشها بل وموته التراجيدي وهو فنان اليونان الأشهر ثيوفيلوس خاتزيميخايل والذي يعرف بأنه كان الباب الذي دخل منه كل فناني المودرنزم اليونانيين حيث عاد بهم ثيوفيلوس لبساطة المشهد التشكيلي الإغريقي القديم ومن ثم أصبح قيمة رومانسية في عالم الفن التشكيلي اليوناني، والحقيقة أن ما لمسناه بشكل شخصي في ثيوفيلوس هو ما جعله يتألق في كل أماكن بيع الفن في أوروبا منذ بضع سنين على الرغم من أنه اشتهر قبيل موته بوقت قصير حيث مات عام 1934 فبينما كان اللوفر العتيد في باريس يعرض لوحاته كان ثيوفيلوس لازال يبحث عن لقمة عيش رخيصة من خلال رسوماته على جدران المقاهي والمنازل حتى أنه مات بالتسمم الغذائي حيث تناول غذاء فاسداً نتيجة لفقره ومن ثم هو الفنان الذي مات جوعاً بينما اللوفر يعرض لوحاته.
الحقيقة قبل أن نطرق باب ثيوفيلوس خاتزيميخايل وندخل لعالمه الثري بالأعاجيب الفنية علينا ان نوضح فكرة نقدية ربما تخفى على العديد من القراء وهي الفرق بين الفن الشعبي والفن الفطري والفن الرخيص، وقد يعتقد البعض أن بعضهما يؤدي للآخر مع ان هذا غير صحيح بالمرة فالفن الشعبي هو ذلك الفن الذي ينبع من الفكرة الشعبية والأخيلة القومية البسيطة والذي يكون متأثراً بالبيئة تأثراً كبيراً لكنه لا يكون فناً بيئياً خالصاً، بل قد يقترب من مقاييس عالمية أيضا والدليل على ذلك أن الرسم القديم في الحضارات القديمة مثل الفرعونية واليونانية والبابلية مثلا كان فناً في البداية شعبياً يحاول أن يخدم أموراً بعينها في الحياة مثل الدين والسياسة والأماكن العامة ثم بعد ذلك دخل للمنازل والدور الخاصة، وبما أنه كان ذا مفهوم مقدس في بادئ الأمر لأنه نشأ على فكرة دينية فأنه لم يراع المقاييس والتقاليد التقنية في الرسم مع ان تلكم الحضارات كانت قد قطعت شوطاً بعيداً في المجال التقني، لكنه كان مقدساً ولم يكن في مضمونه يبحث عن لحظة الفرجة لكنه كان يراهن على فكرة مقدسة وهي الخلود ومن ثم لم يكن يراعي المنظور أو غيرها من تقنيات التصوير، وحتى بعد أن تحرر الفن من الفكرة المقدسة ظل يراعي مسألة عدم الاهتمام بالتقنيات ومن ثم نجد أن الفن الشعبي لازال يظهر بهذا المضمون منذ اكثر من ألفي عام وهذا أيضا دأب كل الحضارات القديمة لكن الفن الشعبي يظل عالميا له تقنياته الخاصة ورؤيته التي تؤجج فكرة قومية ما أو فكرة مقدسة، أما الفن الفطري فهو الفن الذي يكون في يد الإنسان البسيط بالسليقة وبدون أي رؤى فنية وربما اعتمد على فكرة دينية طقسية وهو أقدم بالطبع من الفن الشعبي فهو بداية من رسوم الكهوف للإنسان الأول والرسوم الطوطمية في إفريقيا وغيرها من الشعوب البدائية كذلك المنحوتات الطقسية البدائية مثل منحوتات البيسكي كيفالوس مثلا وهي تعني الأم العظمي أو أحد رموز الخصوبة في الحضارات القديمة، إذن هناك فرق كبير بين الفن الشعبي والفن الفطري وسواء هذا الفن أو ذاك فهما لا يؤديان لما يعرف بالفن الرخيص وهو الفن الذي ينجز على عجل دون مراعاة لأي ذوق أو حرفة أو فكرة وينسب خطأ للفن الشعبي أو الفن الفطري وهذا بالطبع افتراء على فرعين عظيمين من الفنون التشكيلية.
وهكذا بعد أن أوضحنا نقاط الاختلاف بين الفن الشعبي والفن الفطري ندخل ببصيرة لعالم ثيوفيليوس أولا من الناحية التصنيف يعتبر ثيوفيليوس فناناً بين الفن الشعبي والفن الفطري، على أننا لا نستطيع أن نقول عليه كلمة فنان شعبي أو فطري فهو فنان كان يدرك أسلوبه الذي يرسم به كما كانت لديه خلفيات ثقافية كبيرة استوحى منها أعماله بل وكان على دراية كبيرة أيضا بالتاريخ والحضارة الإغريقية والتي نشأ وترعرع ضمن أحد أقدم وأهم أقاليمها وهو إقليم ميتيليني، والذي يعتبر بحق أكثر المراكز الإغريقية الهللينية القديمة منذ القرن الخامس قبل الميلاد وخصوصا لأنه مسقط الشاعرة الأشهر في التاريخ اليوناني وهي الشاعرة الغنائية سافو، وحيث كانت ميتليني التي عاش فيها وترعر ثيوفيليوس قد تحولت لأحد المراكز العثمانية بحيث دانت كل آسيا الصغرى وما كان يطلق عليها اليونان المهجر قديماً ثم بيزنطة دانت للامبراطورية العثمانية التي جعلت من القسطنطينية عاصمة لها مما خلقا مزجاً رائعاً بين الحضارات، ولعلنا نقول هنا إن الحضارة العثمانية كانت نتاجاً بديعاً لاختلاط الحضارة اليونانية البيزنطية بالعربية والشرق أوسطية والبلقانية ومن ثم كانت هناك نتائج فنية مبهرة لهذا التزاوج الذي أصبح بين طرفين متباينين طرف يمثل صراع القوميات وطرف يمثل امتزاجها ثقافيا، وهذا النتاج كان يظهر بشكل كبير في أعمال ثيوفيليوس الذي نستطيع أن نلخص أهم خصائص أسلوبه ومدرسته في عدة نقاط.
أولا تتميز أعمال ثيوفيليوس أنها تتبع المنحى الشعبي والقديم في مسألة البعد نوعا ما عن التمسك بالمقاييس بشكل تقني ففي بعض اللوحات نجد اختلافا بين طول الجذع والأرجل عن المقاييس المنطقية، ونجد أيضا إهمالا واضحا لكنه ليس كبيرا في فكرة المنظور وخصوصا عندما يخلط ثيوفيليوس في أعماله بين أبعاد كثيرة على عدة مستويات، لكننا أيضا في المقابل نجد براعة ثيوفيليوس في أعمال كثيرة في رسم المقاييس ومن ثم نستطيع أن نرجع إهماله للمقاييس للحالة المزاجية فهو أحيانا يبدو متقنا في أعماله مما يدفعنا أن نخمن أنه تقاضى أجرا جيدا وفي بعض الأحيان نجد الرسم انجز ببعض الإهمال أو على عجل مما يدل أنه لم يتقاى غير أجر رمزي – وهو في الغالب وجبة طعام أو بعض القروش – كما نجد اختلافا في الاتقان بين أعماله التي انجزت في بيوت علية القوم وفي أماكن عامة وبين أعماله التي أنجزت في بيوت الفلاحين والمقاهي وهي كثيرة وخصوصا في مدينة فولو وبعض قرى ميتيلني.
ثانيا يعتبر ثيوفيلوس في معظم الأحيان رسام أفرسكو فالعديد من أعمالا انجزت على الحوائط والواجهات الخشبية المكسوة بالملاط وهو هنا يتبع الطقس الإغريقي في استخدام الخامة المنفذ عليها العمل الفني.
ثالثا على الرغم من أن ثيوفيليوس رسام حر فإنه أيضا يمكن اعتباره من الجيل الذي شب عن الطوق في رسم الأيقونات ورحل عنها للرسم الحر وهناك أدلة كثيرة على ذلك فبعض رسوماته تعتبر أيقونية في نواحٍ كثيرة فنحن لا نكاد أحيانا نفرق في أعمالة بين الإسكندر الأكبر وبين مارجرجس وهو أحد الموضوعات المحببة في الأيقونة القبطية واليونانية كذلك فإن المدرسة الأولى للرسم بالنسبة لثيوفيليوس كانت الأيقونة لأن جده لأمه كان رسام أيقونات مخضرما وهو الذي تعلم على يديه مبادئ الرسم الأولى ومن ثم يعتبر كما قلنا رسام أيقونة شب عن الطوق.
رابعا: تدور موضوعات ثيوفيليوس في دوائر محددة لكنها ثرية في نفس الوقت منها الموضوعات التاريخية والتي يركز فيها على ألق الحضارة اليونانية القديمة فنجد أن الإسكندر الأكبر يتكرر في أعمال كثيرة عنده وهو يهزم الفرس لكنه يصور الفرس في صورة العثمانيين وليس لهذا منحى سياسيا لحد كبير لكنه ربما يعتبر ان هؤلاء وأولائك يمثلون الشرق عامة، بالنسية للحياة اليومية نجدها موضوعا متكررا عند ثيوفيليوس والذي يبين فيه التمازج بين العثمانيين والإغريق بشكل كبير فنجد بائع – السميط – اليوناني يقف لبيع بضاعته وحوله النساء الأتراك يشترين منه كذلك مشاهد الزراعة والحصاد والنساء العثمانيات في زي محتشم، لكننا أيضا نجد أن بعض موضوعاته تتبدى فيها القومية الإغريقية الحديثة ونجد علم اليونان يرفرف في يد أنثى كرمز لليونان في أعمال كثيرة له، بعض الموضوعات الطريفة نجدها في أعمال ثيوفيليوس مثل روميو وجوليت لكن بالزي اليوناني وهي ما أطلق عليها– روميو وجوليت اليونانية- ونجد منها نسخا كثيرة ونشير هنا إلى أن الحكاية في الأساس اقتبسها شكسبير من حدوتة يونانية بيزنطية (بيراموس وتسيبيه).
ولد ثيوفيليوس خاتزيميخايل في فاريا وهي قرية من أعمال إقليم ميتليني عام 1868 لأب يعمل في إسكافيا وأم متعلمة وكان جده لأمه رسام أيقونات ماهرا تعلم على يديه مبادئ الرسم، لم ينه ثيوفيليوس تعليمه المتوسط أو ربما توقف عند المرحلة الإعدادية وهو في سن الـ18 وبعد أن أبدى اهتماما بالفن والرسم ترك منزله وذهب ليعمل كحارس بوابة عند القنصل اليوناني في سيمرنا– أزمير حاليا– وارتدى التنورة اليونانية وحمل السلاح في إشارة لبلوغه مرحلة الرجولة، لكنه بعد فترة حوالي عشر سنوات أو اقل ذهب لمدينة فولوس الشهيرة للبحث عن عمل واستقر هناك لفترة عمل في عدة أعمال غير مستقرة، لكنه كان يرسم أيضا على الحوائط في المقاهي والمنازل وعند علية القوم ومن بينهم الثري اليوناني الشهير يانيس كونتوس والذي عاش في حمايته معظم حياته وكان يمارس الرسم كحرفة ويعمل منظما في المهرجانات والأعياد الشعبية فيمثل المعارك والمواقف التاريخية ويصنع الملابس التاريخية بيديه، لكن بعد أن توفي كونتوس حاميه وراعيه أصبح محطا لبعض المضايقات لأنه كان إنسانا مسالما وغير عدواني وفي إحدى المرات تقدم بعض الشباب وأسقطوه من على السلم وهو يرسم في أحد المقاهي كنوع من المزاح، ولما وجد نفسها محاطا للسخرية والاستهزاء عاد إلى ميتليني عام 1927 وقضى باقي حياته هناك ومارس الرسم في عدة اماكن بل كان يعلمه للأطفال لكن دخل الرسم كان شحيحا فكان يضطر للرسم مقابل وجبة طعام أو كأس شراب، حتى قابل الناقد اليوناني الكبير ستراتيس اليثرياديس والذي أخذ الكثير من أعماله لتعرض في باريس وبينما خصصت إحدى قاعات اللوفر لعرض نماذج من أعماله كان هو يستجدي بالرسم، وبينما كانت المؤشرات تشير إلى أنه سوف يقترب من أسعار بيكاسو ومودولياني تناول ثيوفيليوس وجبة طعام فاسدة مات على أثرها في مارس 1934 لكنه حظي باهتمام كبير من قبل النقاد وافتتح له متحفان كبيران أحدهما في ميتليني والآخر في فولوس في بيت الثري كونتوس الذي كان يرعاه وأصبح ثيوفيلوس حتى يومنا هذا أحد أساطير الفن اليوناني الحديث وبلغت احدى لوحاته التي بيعت منذ عامين في باريس حوالي 4 ملايين يورو.
copy short url   نسخ
11/12/2017
3857