+ A
A -
بقلم- باسم توفيق
في بعض معضلات الفن التشكيلي كجانب من تطور حركة الدفع والتطور في تاريخ البشرية بغض النظر إن كان هذا التطور هو ارتقاء أو ردة في اتجاه التحلل، علينا أن نستشف أن المحاولات التي كانت تقدم العمل الفني على أنه جزء من محاكاة شبه متوائمة مع الطبيعة.
هذه المحاولات تضاءلت وتحولت بشكل أو بآخر لنوع من أنواع التحليل ثم التفكيك ثم مرحلة أكثر تطورا وهي مرحلة إسقاط الشكل أو الصورة داخل العمل الفني إذا آثرنا الدقة.
وهذا ليس وصفا دقيقا لما يعرف بالتجريد مطلقا فهناك مرحلة وقفت في منطقة وسطى بين التجريد والتشخيص، ولعلنا هنا نلجأ للمصطلح الغربي الذي يحدد لنا بدقة ماذا نقصد فالكثير من المعاجم تقدم لنا مدرسة التشخيص FIGURATIVE على أنها مساوية تماما لمصطلح تجريد ABSTRACT وهذا في الواقع ليس صحيحا من وجهة نظرنا، فهناك فرق كبير بين التجريد كنوع من أنواع التحليل الهندسي والمطلق للرؤية الفنية وبين تقديم هزه قوية للكتلة التشخيصية داخل العمل الفني والمقصود هنا بالكتلة الشخصية الوجه بشكل كبير وبعض أعضاء الجسد التي تأتي تباعا كما ينطبق هذا على الكتلة المعمارية في المشهد الخارجي أيضا، ولكي يتضح لنا الفرق بشكل عملي علينا المقارنة بين أوروباخ وهو أحد أساتذة التشخيص، بل ويعتبر على رأس قائمة المطلوبين لأعلى سعر كما تقول عنه الصحافة الفنية وهو الفنان الإنجليزي الكبير فرانك أوروباخ وبين زميليه من نفس جيله الفنان لوسيان فرويد والفنان فرانسيس بيكون، وهم أيضا من نفس الحلقة والتكوين ونفس الجيل إذا شئنا التقريب والبعض قد يتساءل عن جدوى المقارنة من عدمها على اعتبار أن لوسيان فرويد قد يكون بعيدا بعض الشيء عن خط التطوير الذي انتهجه زميلاه بيكون وأوروباخ، نستطيع أن نأخذ كتلة الوجه عند فرويد فنجدها لازالت تحتفظ بالوضع التقليدي من حيث الملامح فهناك أنف وعيون وفم وخطوط محوطة للوجه مع الوضع في الاعتبار أن فرويد أيضا قدم لنا رعشة أولية في الوجه فزحزح مقاييسه بعض الشيء من حيث الاستطالة وفرد مسطحات هندسية بعض الشيء في الملامح وبالرغم من أنه اقترب كثيرا لوجوه أيجون النمساوي لكنه كان يقوم أيضا بما يراه تطورا من وجهة نظره، ثم نأتي للعبقري المتفرد فرانسيس بيكون فنجده قد خطا خطوة اوسع في هز الوجه وجعله يتحلل أكثر من مقاييسه وخطوطه المحوطة فقدم لنا قيما مشوهة للوجه والجسد الهدف منها التعبير عن مضامين نفسية وفلسفية وأفكار من قبيل– عار الجسد- وغيرها من المضامين الكثيرة ويعتبر بيكون هو حلقة الوصل بين تحولات لوسيان فرويد وفرانك أوروباخ ونجد أن أوروباخ قد خطا خطوة أكثر قوة من بيكون ناحية هز الوجه، بل أكثر من ذلك لقد تعرضت وجوهه لزلزال لوني وفكري وأصبحت وكأنها ترزح تحت وطأة المحو والتدمير وهذا هو الإيحاء الحقيقي لوجوه أوروباخ الذي كما قلنا تقدم بشكل كبير في فكرة تفكيك الكتلة الجسدية على زميله فرانسيس بيكون.
من هذه المقارنة يتضح لنا أن كلا من هؤلاء لا نستطيع أن نطلق على فنهم تجريديا بالمعنى المطلق فالتجريد هو التحليل الكلي والشامل للكتلة التشخيصية داخل العمل الفني وتحويلها لمجموعة من الأشكال المنتظمة هندسية كانت أو غير هندسية، لكنها تعبر عن معادل رياضي للكتلة فلا يبقى لنا أي دلالة على وجود مضمون جسدي أو تشخيصي وهذا ما يمثله بدقة أبو التجريد فاسيلي كاندينسكي، وهو ما نستطيع أن نسميه التجريد المطلق والصريح، لكن أصحاب مدرسة التشخيص أو الفيجوراتيف هم فنانون لازالت هناك افضلية ولو قليلة للتشخيص الجسدي وتلميح الكتلة داخل أعمالهم ومن ثم يصبح من الخطأ أن نعتبر أن التشخيص والتجريد يحملان نفس المعنى ونفس المدرسة حتى إذا عولنا على التحليل اللغوي والمعجمي وجدنا أن الـ ABSTRACT هو في الأصل تمام الاختزال لكن الـ FIGURATIVE لازال مصطلحا يحمل داخل الصورة.
فرانك أوروباخ فنان انجليزي الجنسية وألماني النشأة والأصل ولعل ارتباط أوروباخ بشكل قوي بفاجعة الهولوكوست يجعلنا نميل للتصديق أنه أسقط مأساة طفولته على أعماله وفنه فحاول دائما تقديم شكل مهزوز للوجه البشري على أساس شعوره بانحلال الفكرة الحضارية داخل النفس البشرية ومن ثم تتبدى في شكل مشوش أقرب للشبح منها للإنسان يقول أوروباخ في أحد لقاءاته التليفزيونية: لازالت أذكر وكأنه الأمس كيف قبلتني أمي واحتضنتني ونظرت في عيني لآخر مرة في حياتها وكانت دموعها تقول لي إننا لن نلتقي فاهتم بنفسك يا صغيري كنت ابن الثماني سنوات حينما حملني هؤلاء الانجليز الذين أتوا كملائكة فذهبت معهم في رحلة محفوفة بالمكاره إلى لندن.. ولم أر أمي بعدها قط. لقد أثر هذا الحدث كثيرا على نفسية وفن أوروباخ، ونذكر أننا حين قمنا بلقاء معه في باريس منذ ثماني سنوات قال لي حرفيا في شرح الوجوه التي يرسمها: تخيل أنك فقدت البصر وأنت في سن ثماني سنوات.. كيف سوف ترى الوجوه في ذاكرتك العمياء فيما بعد؟ لن تراها بالطبع واضحة أو ثابتة أو ذات ملامح محددة بل على العكس تماما سوف تراها خطوطا تتفكك حول محورها وتقدم تلك تشظيا وتحللا صريحا... إذن أعتبر أنني فقدت البصر منذ أن كنت في الثامنة وهذه اللوحات هي أقصى ما تقدمه لي ذاكرتي العمياء.
الحقيقة أن هذا الرد أبهرني بل وجعلني أعيد النظر مرة أخرى في اعمال فرانك أوروباخ والتي كانت في هذا الوقت قد وصلت لنادي الملايين، فبعض لوحاته وصلت كحد أقصى لـ11 مليون دولار وبعضها وصل لـ5 ملايين دولار كحد أدنى، ولعل صدق أوروباخ في وصف أحاسيسه تجاه أعماله جعلني اؤكد لنفسي ما أؤمن به وهو أن المدرسية ما هي إلا قشرة نلبسها للفنان حتى نقوم بتصنيفه ضمن إطار زمني أو نوعي ولكن هذا لا يعني بالتحديد أن الفنان أنجز كل أعماله بهذا التقارب الذي يجعله ضمن مدرسة ما وهذا ما يثبته كلام مارك أوروباخ لنا في وصف أعماله الفنية.
تتميز وجوه أوروباخ بأنها أكثر تحللا من وجوه بيكون كما قلنا لكنها تحتفظ بخط تشخيصي جيدا فالمتلقي يستطيع وسط كل هذا الزخم من الخلط اللوني وتداخل الخطوط أو الشخبطة كما نقول بالعامية يستطيع المتلقي ان يميز ملامح الوجه وتعبيراته بكل سهولة وان كانت تعبيرات أولية لحد ما مثل الحزن أو الغضب أو حتى التأمل، يعول فرانك أوروباخ كثيرا على تحديد اتجاهات الوجه في أعماله والتي تتكفل بنسبة كبيرة من توضيح الحالة النفسية، تعتبر اتجاهات الفرشاة في أعماله ذات مغزى تكويني في الوجه بحيث تستطيع أن تتبع بسهولة نقطة البداية ونقطة النهاية في السيناريو التنفيذي للعمل الفني واستخدم أوروباخ ضربات الفرشاة العريضة والمتصلة مع استخدام الالوان السميكة مما يوحي أحيانا ان معظم اعماله الملونة من الجواش والأكريليك. أنجز أوروباخ أعمالا فنية كثيرة من نوعية الأبيض والأسود والتي تنتمي جزئيا لتقنية الحفر والتي والحق يقال كانت عصية بشكل كبير على التحليل من الناحية النقدية فبعضها ينتمي للتشخيص الكلاسيكي ويقترب من الفوتوغرافيا وبعضها يقع في نفس دائرة أعمال أوروباخ اللونية، وتتميز هذا الأعمال بأنها تنحو لفكرة التزمين– أي التدليل على خاصية الزمن– وكأنها تسرد قصص أشخاص ماضية بل وأحيانا توحي بشكل مؤكد أنها تحكي حكايات عن الموتى، ومن المؤكد انها تحمل نفس الطابع المأساوي المرتبط بطفولته.
ولد فرانك أوروباخ عام 1931 في برلين وكان والده محاميا شهيرا ويتمتع بمكانة اجتماعية كبيرة ووالدته كانت تهوى الرسم، التحق أوروباخ بمدرسة بونك كورت لتعلم الرسم كما كانت له اهتمامات بفن الدراما لكنه كان أميل لفن الرسم ومن ثم تقلب في مدارس عدة حتى وصل للدراسة في البوليتكنيك ثم كلية سلاد الشهيرة وهناك تأثر بأستاذه ديفيد بيمبرج الذي قاد حركة التفكيك الشهيرة فيما بين الثلاثينيات والخمسينيات، يعتبر مارك أوروباخ من القلائل الذين على قيد الحياة من هذا الجيل هو من الفنانين النادرين الذين تقتني كل متاحف العالم وجاليريهاته بلا استثناء أعماله كما انه احد أشهر الأسماء في بورصة الأعمال الفنية.
copy short url   نسخ
20/11/2017
2408