+ A
A -
بقلم: باسم توفيق
حينما تسقط قناعتنا بالأسماء الرنانة والأساطير الثقافية التي حيكت على مدار نصف قرن ونيف سوف تنفسح أمامنا الآفاق واسعة لننهل من الفن والثقافة بالمعنى الحقيقي دون عقد النزوع التي تربت داخلنا منذ أن بدأ الجيل الأوسط في توريد اعتقاده لنا في صورة تلقين، وهذا الاعتقاد كان قائما على الانبهار الأولي الناتج عن ذاتية شبه مطلقة، ودعنا نوضح أكثر حتى يتسنى للجميع فهم القضية التي ننوي طرحها بعيدا عن التجريد، إذا سألت ثلاث فئات في مجتمعاتنا العربية عن إعجابها في مجالات الثقافة المختلفة – أو دعنا نقل المنتوج العقلي – فسوف تجد نفس الاجابة على الرغم من اختلاف التصنيف الفئوي لهؤلاء، فمثلا بعض من العوام المهتمين بشكل ثانوي بالثقافة وهذه الفئة الأولى ثم فئة أنصاف المثقفين سواء صادقين أو مدعين يليها الخاصة وهم أيضا ليسوا في مجملهم يخدمون الثقافة أو يتذوقونها بشكل جدي وحيادي، إذا سألت أيا من هذه الفئات سؤالا بسيطا عن الموسيقى الكلاسيكية تراه من أول وهلة يستحضر بيتهوفن... أو الفن التشكيلي من أول وهلة أيضا يستحضر بيكاسو أو دافنشي وكأن الفن التشكيلي كله مختزل في الجيوكاندا مثلا أو الموسيقى الكلاسيكية كلها مختزلة في بيتهوفن، وهذه المشكلة الأولى نستطيع أن نقول أن أساطير البنية الثقافية عن الثقافة الأوروبية خلقت لدينا نوعا من التوحد الثقافي – أو لدى معظمنا – فأصبحنا نتجه دائما للاختزال فنختزل الموسيقى في بيتهوفن والفن التشكيلي في بيكاسو – في فكرة الحداثة – وهذا حرمنا على مدار نصف قرن من الاستمتاع والتنظير، الاستمتاع مثلا بفنانين مثل موكا وجاكوميتي وباسكيات وغيرهم على سبيل المثال لا الحصر، كما منعنا من الاستمتاع برخمانينوف وسان سانز وبوتشيني على سبيل المثال في الموسيقى، وأيضا من التنظير من أن ننتقل من وهم الفكرة الثقافية والرأي المسبق لرحابة التعدد والمقارنة لنعرف مثلا ان بيتهوفن لم يكن الأفضل على الإطلاق وان مندلسون مثلا كان أكثر انطلاقا وتألقا.
الحقيقة أن هذه القضية هي إحدى أزمات الوعي والتلقي في وطننا العربي وهي أزمة ليست بالهينة فهي أنتجت ولا زالت تنتج أجيالا من المتوحدين ثقافيا، ونحن هنا نقصد المثقفين ذوي النظرة الأحادية، والحكم المسبق الذي تم تكوينه فطريا بسبب آراء الجيل الأوسط الذي خلق مسلمات غير صحيحة بل وشكلت ضررا بالغا لتيار الوعي الثقافي في المجتمع العربي، وأصبح الخلل فيما بعد قاعدة، ومن ثم نتج جيل يهاجم كل من تسول له نفسه تصحيح هذه المسلمات الخاطئة، فبدلا من ان نهاجم الجهل والتوحد الثقافي أصبحنا نهاجم الانفتاح والوعي المتجدد نحو التعاطي مع الجديد أو حتى القديم المختلف، ولعل أساطير الوهم الثقافي لا تنحصر فقط في اختزال النوع الثقافي الغربي في اسم أو مجموعة أسماء لكنها أيضا تتبدى بقوة في ترسيخ أحكام ليست صحيحة وفردية بشكل كبير، هذه الأحكام ظلت في مجتمعنا عقودا وحتى الآن تؤثر على معظم المقولات وردود الأفعال والأنشطة الثقافية، فنحن مازلنا نرى جان بول سارتر فيلسوفا وهو بالطبع ليس فيلسوفا منذورا للفلسفة بالشكل المعروف، وليس كمارتن هايدجر أو بيكون أو برتراند راسل لكنه في الحقيقة روائي وأديب لخص بعض فلسفات عصره وخصوصا الوجودية التي تأثر بها هو وأبناء جيله في أوروبا كلها لخصها وعبر عنها في رواياته ومسرحياته مثل «موتى بلا قبور» ومثل «سن الرشد» وغيرها من أعماله، وليس سارتر بالطبع هو موضوعنا لكنه مجرد مثال على التوحد الثقافي لدينا، وهناك الكثير من أوهام التنظير الثقافي التي أطلقت بالخطأ من قبل الجيل الأوسط والذي نقصد به الجيل التالي بعد رواد التنوير، والمشكلة هنا أن الأجيال التالية عاملت هذه المقولات على أنها مسلمات دون نقد وبحث كاف، فحرمت نفسها من الاطلاع على منابع عظيمة في الثقافة الغربية بل وتطورت هذه الأحكام فأنتجت خرافات شديدة الخطورة كأن تجد مثلا أن العديد من مثقفي عصرنا يعتبرون سارتر مبتدع الوجودية التي سبقته في ألمانيا بعقدين على الأقل على يد فلاسفة عظماء درسوا الفلسفة وانقطعوا لها، وكأن تجد مثلا أن معظم المثقفين العرب يتعاملون مع بيكاسو على أنه أبو الحداثة في الفن التشكيلي، مع أنه نقديا يقف في آخر عصر الحداثة بل وحتى التكعيبية التي تنسب له سبقه إليها فنان آخر، والنتيجة أن مكتبتنا العربية فقيرة في نقد الفن التشكيلي وأغلب من يتصدى للنقد التشكيلي هواة يعيدون كتابة ما كتب من قبل بشكل آخر لينسبوا لأنفسهم ما ليس لهم، مع أن ما كتب من قبل في الأساس معظمه رؤى ذاتية دون رؤية نقدية حقيقية قائمة على ثقافة نقدية نوعية ودراسة أكاديمية، والنتيجة بالطبع أننا لا نعتقد أن الوطن العربي على اتساعه يحتوي على حركة جادة في النقد التشكيلي.
ولا نستطيع أن نتخيل أساطير الوهم الثقافي في وطننا العربي دون أن نثير قضية المعميات التي أطلقها المثقفون والمبدعون أيضا في انتحالهم أحيانا صفة الناقد بشكل أو بآخر وتلقين المتلقي قيما هم الذين ابتدعوها، ومعظمها بالطبع بعيدة عن الواقع بشكل كبير لأنها قائمة على فكرة رومانسية، وهي فكرة أن الشاعر ناقد بطبعه للشعر أو ان المثقف لديه الحس النقدي في معظم الأحوال، وهذا بالطبع غير صحيح لأن الشاعر مثلا تسكنه في أحيان كثيرة فكرة الحب والتقديس لمثال ما من شعراء سبقوه أو فكرة الغيرة في اللاوعي من شعراء قبله أو معاصرين له، ومن ثم تكون أحكامه غير منصفة وربما رومانسية، كذلك المثقف الذي يعلي من قدر أحد المفكرين الذي يعتبره هو مثالا ومن ثم نجده يظهره لنا في صورة مقدسة حتى يقنعنا أنه إحدى معجزات الأرض الفكرية، والأمثلة لدينا كثيرة وبالنسبة للشعراء الذين تجاسروا على ممارسة النقد مثلا كان الشاعر صلاح عبد الصبور والذي نصب نفسه متحدثا رسميا عن الشاعر الانجليزي ت س إليوت في الوطن العربي، ومن ثم ترجم وعرض ونظر حول شعره وخرج لنا بنظرية للأسف من بنات أفكاره ولا محل لها من الصحة وهي أن ت س إليوت هو أبو الحداثة في الشعر الانجليزي، وهذا بالطبع خطأ بنسبة كبيرة وما علينا من فهمنا الخاطئ لجدول الحداثة زمنيا كمفكرين ومثقفين عرب إلا أنه وضع اليوت كمبتدع للحداثة وضعا عاريا تماما من الحقيقة، وان كان أستاذه إزرا باوند أحق منه بهذا اللقب إلا أن الحداثة سابقة على كليهما، والحقيقة أننا لا نرى – وهذا رأي معظم النقاد في الغرب - في شعر إليوت غير مجرد مناظرة ثقافية واستعراض لمعميات ضخمة وكلاسيكية، وعلى الرغم من وجود متعة شعرية عند إليوت فإننا نجد انه من الصعب على العامة أو حتى أنصاف المثقفين استساغة شعره والذي يقتبس فيه أحيانا شلواً كبيرا من الشعر الكلاسيكي اللاتيني مثلا أو يشير إلى حدث كلاسيكي أو رمز حتى في الشعر الانجليزي القديم فيصيب نصه الأعجام في نظر القارئ العادي، ويكفي أن نقول إن بعض قصائده تحتاج لهوامش عشرات الصفحات حتى تستطيع تغطية المضمون، وكأنك تقرأ أوفيديوس أو فيرجيليوس مثلا فما بالك بوضعه على عرش حداثة الشعر الانجليزي، مع أنه في الحقيقة شاعر متقعر وهو ناقد أعظم منه شاعرا بكثير، لكن صلاح عبد الصبور اتخذ القرار ونصبه أميرا لشعر الحداثة، ومع الأسف فإن مثقفي الوطن العربي مالوا إلى رأي عبد الصبور، بل وجعل الكثير منهم المسألة مسلمة وبديهية، والحقيقة أننا أمام ناقد انتحل الشعر – اليوت – وشاعر انتحل النقد – عبد الصبور.
أيضا المثقفون الذين حاولوا بدون دراسة وافية للخلفيات الحقيقية للنقد ولمن ينقدونه حاولوا فرض نظريات بعيدة تماما عن الحقيقة فجعلوا من عباس العقاد هو هيجل الوطن العربي، مع أنه أبعد ما يكون عن ذلك، لمجرد أنه عرض لبعض أفكار هيجل وهو ذلك الأديب والمثقف غير الأكاديمي والدارس ذاتيا – وهذا لا يقلل من شأنه – لكننا مثلا نترك الدكتور عبد الرحمن بدوي صاحب العبقرية والإعجاز في تحليل وطرح الفكر الغربي وننظر للعقاد على انه هيجل؟ ونحن هنا لسنا في تقليل من شأن العقاد لكننا بصدد تصحيح وإعطاء أمثلة لأساطير التلقي الثقافي في الوطن العربي، ولابد أيضا حتى تتضح لنا الصورة أن ننتصر للاتجاه الأكاديمي الذي أغفلنا حقه جميعا في معرض تقديسنا لمفكرين كانوا بعيدين كل البعد عن العرف الأكاديمي ولو بشكل إطار يصلح ما تفسده الأهواء وتعتبر مشكلة تجاهل الأكاديميين هي إحدى عقد التلقي الثقافي عند العرب وهي في الحقيقة ذات شقين شق يقع على عاتق الأكاديمي نفسه – ونقصد هنا الأكاديمي غير الموهوب – وهو أن الكثير من الأكاديميين لا يستطيعون الخروج عن الملعب الأكاديمي وتقديم الاكتشاف النظري الأكاديمي في صورة أدبية مقروءة تستوعبها مستويات عديدة من القراء وهذا طبعا قصور في الأكاديمي ذاته وليس في الفكر الأكاديمي، والشق الثاني هو حالة الرهاب الدائم لدى القارئ من كل ما هو أكاديمي أو داخل إطار منهجي، والسبب في ذلك يعود للنصف الثاني من القرن العشرين حينما بدأت العملية التعليمية في التراجع بشكل ملحوظ حتى وصلت في الثمانينيات لصورة كارثية، وتربت عقدة لدى المتلقي في اللاوعي مفادها ان كل ما هو أكاديمي فهو سخيف وجاف، وهكذا مات أهم جانب في تربية حس نقدي وثقافة منظمة عند القارئ ومن ثم أصبح الكل يتخبط في عوالم من اختراع كتاب غير مؤهلين.
إن الأزمة الثقافية في الوطن العربي تزداد اتساعا وعمقا وخصوصا بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والتي أصبحت تردد وترسخ لمقولات وأساطير الوهم الثقافي، ذلك الوهم الذي كان متاحا للقارئ فقط، لكنه الآن أصبح مفروضا على الجميع لذلك فإن هناك جيلا تكون بالفعل من الواقعي ان نطلق عليه – جيل المخربين THE VANDALS - وهم مجموعة من الجهلة وغير المؤهلين أتيحت لهم منابر الوصول للقارئ ولشريحة عظمى من الشباب، وسوف تكون هذه هي المرحلة اللاحقة من التفكيك للوعي الثقافي لدى مجتمعنا العربي، إذا لم نقف ونتصدى لأساطير الوهم الثقافي ونصحح الفكرة لدى المتلقي ونواجه جيل المخربين سوف ندخل الكهف من جديد، وهو بالطبع نهاية للعقل الجمعي الثقافي في مجتمعنا العربي.
copy short url   نسخ
23/10/2017
3210