+ A
A -
عادةً ما تمر الدول والمناطق المثخنة بالصراعات بفترة صمت ما بين توقف الصراع وبداية مرحلة جديدة تحكمها قواعد مختلفة لضمان الأمن والاستقرار. فترة صمت انتقالي بين وضع قديم فاشل ووضع جديد يرجى أن يكون أفضل. من أوروبا إلى جنوب شرق آسيا إلى القوقاز إلى آسيا الوسطى، لا يوجد إقليم حول العالم خاض حروباً وصراعات وقلاقل إلا وهدأ بالتدريج.
فأهوال السياسة متى ما خفتت وتبين حجم ما خلفته من آثار إلا وتصيب الناس بالصدمة والذهول. ذهول يستدعي فترة من الصمت تعبيراً عن عمق الصدمة وتفكيراً في مخرج وحلول. ومنطقتنا العربية المنكوبة في حاجة إلى فترة صمت تهدأ فيها بالتدريج. لا بد فيها من زيادة ملموسة للطلب على كل أنواع الصمت: العسكري والديني والسياسي والأيديولوجي والمذهبي. ولو كان بمقدورها أن تدخل حتى في فترة من الخرس المطلق لكان أفضل.
لكن المصيبة أنها منطقة مستدامة النكبات لم تدخل طيلة تاريخها الحديث فترة صمت مجدية مكنتها من التفكير باستنارة. صمت عقلاني يمهد لتدشين قواعد مختلفة تحترم بجدية إرادات الشعوب وتفسح المجال حراً لتسويات خلاقة للاختلافات بعيداً عن أسنة الرماح وحدة الألسنة والكلام الفارغ. منطقة لم تعرف للأسف من كل أشكال الصمت غير الصمت السلطوي الذي فرضته حكومات مستبدة لا تطيق صوتاً مخالفاً وقوى خارجية متجبرة تحركها غرائز إمبراطورية لا تنتظر غير السكوت على ما ترتكبه من حماقات.
هذا الصمت السلطوي بشقيه الداخلي والخارجي لم ينفع المنطقة يوماً لأنه حاول الوصول إلى هدوء مبني على الخوف والقهر وليس على القناعة والاحتواء. صمت زائف كثيراً ما أعقبته موجات شرسة من الصراخ والتطاحن. كل ثورات الربيع العربي مثلاً سبقتها محاولات لتشديد الصمت السلطوي على الشعوب. لكنها فشلت لما تكلمت الشعوب. غير أن الشعوب لما تكلمت أخطأت التقدير والتعبير والتغيير لتفشل ثوراتها النبيلة ليعود الناس من جديد إلى حنين متوهم إلى السلطوية معتقدين أن ما تفرضه من صمت سلطوي يبقى على سوءاته أفضل من كل الكلام الديمقراطي الذي جرى تصويره بأنه السبب وراء الصراعات الدموية التي قتلت وشردت ملايين العرب في ظرف بضعة أشهر.
ولو أخذنا صراعات الكلام العربية وحدها في الاعتبار لتبينت الحاجة الماسة إلى فترة صمت مهذب قبل محاولة إيجاد أية حلول لأي من مشكلات المنطقة. فعلى عكس الأيام الخوالي عندما كانت الإذاعات والتليفزيونات العربية تنتقم بالكلام من بعضها، فإن الحاضر شهد انضمام قادة وساسة ورموز إلى وطيس الكلام الحامي ناسين أن عليهم أن يكونوا دعاة ورعاة لفترة صمت بناءة تسمح بإعادة التفكير في قواعد اشتباك آمنة واستراتيجيات مخرج خلاقة. وتكفي الإشارة إلى ما يفعله بعض المسؤولين العرب على موقع الرسائل القصيرة تويتر والذي يكفي لتوتير العالم بأسره. هؤلاء المسؤولون يفرضون صمتاً سلطوياً مطبقاً على شعوبهم ما عدا الإكثار من الثرثرة الحمقاء ضد شعوب عربية أخرى إلى درجة حولت الكراهية المجتمعية إلى صناعة سياسية عربية ثقيلة.
وعلى عكس الصمت العقلاني الذي قد تفكر فيه نخب محدودة من الإصلاحيين العقلاء، فإن الصمت الوحيد المعروض باستمرار على المنطقة هو الصمت السلطوي. كل سلطة عربية تقريباً تتصرف مع شعبها ومع كثير من الحكومات العربية الأخرى على أساس أن جدار الصمت السلطوي الذي تفرضه لا يجب أن يفكر أحد في هدمه. وكل من لا يلتزم بذلك أو يدعو حتى إلى صمت خلاق يهدأ فيه الكل ليعيدوا التفكير بجماعية وبشكل نقدي في مشكلاتهم قد يجد نفسه عرضة للقمع والتشويه والاتهام بجرائم شنيعة مثل الخيانة والإرهاب بما يبرر قمعه واقتلاعه.
المشكلة في منطقتنا المنكوبة ليست فقط أنها لا تعرف كيف تتكلم سواء بين مسؤوليها أو بين الحكومات والشعوب وإنما الأخطر أنها لا تعرف كيف تصمت صمتاً خلاقاً. فكل صمتها لم يأت عن اختيار وإنما عن إجبار. صمت بالإكراه وليس بالإرادة. صمت سلطوي يهتم بإخراس كل صوت نقدي عاقل يهدد ركائز البنية السلطوية. لكن الصمت السلطوي مع ذلك صمت كاذب لا يهدئ المخاوف وإنما يخفيها تحت الرماد إلى أن تنفجر مشكلات جديدة لا يهتم الصمت السلطوي إلا بأن يحيطها بحزام كثيف من التستر والإخفاء.
في ظل الصمت السلطوي يُجرّم الكلام الهادف ويطلب من الناس أن يسكتوا سكوتاً مطلقاً. فالصمت السلطوي لا يفهم السكوت على أنه وسيلة لمراجعة الذات وإنما يجعله غاية في حد ذاتها. يحوله من مرحلة مؤقتة لالتقاط الأنفاس إلى حالة دائمة تكتم الأنفاس. إنه صمت لا يستوعب حجم الكارثة التي وصلت إليها المنطقة وحاجتها إلى فترة سكون بناءّ وسكوت خلاق تفكر خلالها بهدوء بدلاً من ذلك الصمت المطبق الذي يجعلها والعدم سواء.
بقلم: د.إبراهيم عرفات
copy short url   نسخ
16/04/2018
2262