+ A
A -
تتحفنا الحياة مرارًا بتذوق مشاعر الفقد المريرة والتي لم نكن مهيئين يوماً لتجرع علقمها، فقد نتوقع ممارسة مشاعر الحزن على فقيد من ذوي القربى، أو على زميل دراسة احتكت مشاعرنا بوجدانه، أو لربما يؤثر فينا رحيل معلم أو حتى خادم له علينا أياد بيضاء، أو جار حفر ببصماته في جداريات أفئدتنا.
لكن وجه الغرابة أن تتقاذفك مشاعر الأسى والخسران ويطفر من مقلتيك سخين الدمع على رحيل إنسان ما قابلته يومًا، فتسأل نفسك، علام الفقد والحزن إذن؟!
هذا ما أصابني حين فجعت بنبأ رحيل الروائي الراحل د. أحمد خالد توفيق.
فلقد ضبط قلبي متلبسَا بمشاعر أسى على هذا الأديب الذي أسرع الرحيل حتى أنه تنبأ بيوم وفاته بشكل جدًا دقيق، سيما حين أعلن بأحد لقاءاته المتلفزة: «إن بقائي الآن حيًا يشبه ما وصفه نجيب محفوظ بوصول المسافر بالقطار لمحطة سيدي جابر التي تبعد دقائق عن الاسكندرية، حينها يشرع الركاب في التحضر للنزول من قطار الحياة».
أو كما وصف الأديب يوسف ادريس حياته بأنها «قصة قصيرة، طالت قليلا».
لم اقرأ حرفا للدكتور أحمد خالد توفيق، كوني لم أكن يوما من هواة أدب الرعب. لكنني دوما أجدنى أسيرة لإنسانية وبساطة وصدق أحدهم. ولقد كانت إنسانية هذا الكاتب طافحة، هذا عدا صدقه وبساطته المفرطة والمصفرة من أي ادعاء.
يروي أحد تلامذته أنه كان يمتحنه امتحانا شفويا ولما عجز الطالب عن الاجابة، ترك د. احمد الامتحان وجلس يشرح للطالب.
رحمه الله ورحم أمثاله من نجوم الإنسانية الذين يجرحون بنورهم عتمة ظلام قساة البشر.
منذ أول يوم خطوت في أعتاب الأربعينات وقد تغيرت معاييري في الارتباط بالآخرين، كما وفي انتقاء محيطي.
فكم كنت انبهر بالبراق والرشيق والوسيم والزاهد.
ولكم بت اليوم التصق بالإنساني والصادق والبسيط فحسب.
من هؤلاء، مستر «جوردن»، معلم ايرلندي يدرس الإنجليزية لابنتي في المرحلة الابتدائية، على أني أحسبه - هو ذاته- درس حي لمادة الانسانية والبساطة، فهو لا ينسى أن يعلم طلابه كيف يسعدون ويبتهجون.
تراه يحمل عنهم حقائبهم بمودة، ثم إنه يلعب معهم بنفسه في أوقات الفسح، ويطلب منهم ان يكتبوا ملاحظاتهم عن السيئ من خصاله ليتسنى له تحسين أدائه. واذا ما وجد زميلا له حزينا، يسأل الطلبة ان يقدموا مقترحات لمقالب طريفة، ليمازحوا بها زميله الحزين ليخرجوه من اكتئابه.
أما إذا ما قدم إليه أحد أولياء الأمور هدية رمزية كزهور أو خلافه في عيد المعلم، فتجده يبدي خجلا كبيرا، حتى أنه يرفع كلتا يديه، يخالفهما ويشيح رافضًا بحياء جم: «لا لا شكرًا».
وأذكر يومًا نسي فيه أبنائي وجباتهم، فذهبت إليهم لأوافيهم بالمؤونة، وكنت جدًا محرجة من إعاقة سير الدرس.
فرأيت أن أضع لهم علب الطعام في حقائبهم ثم أنصرف، لكنه حينما رآني، طلب مني الدخول للفصل ومنح ابنتي الطعام أمام صديقاتها..
ثم أردف: «ستتضاعف فرحتها بدخولك عليها أمام أقرانها، وستبقى ذكرى في وجدانها مدى العمر».
لا أعتقد أن ابنتي مدركة لقيمة معلمها، إلا أنني على يقين أنها يومًا ما ستبكي فقدانه كما أنني موقنة أن الحياة كفيلة بتلقينها درسا مفاده أنها رزقت واحدا من أفضل المعلمين الذين مروا في حياتها.. هذا الذي لم ينس أن يؤنسن وظيفته.
كاتبة مصرية
EMAIL:[email protected]

بقلم : داليا الحديدي
copy short url   نسخ
07/04/2018
4578