+ A
A -
كثرت الشواهد الدالة على تفشي اللامبالاة والتي تؤكد أن الاستخفاف لم يعد مجرد حالات فردية. باتت الاستهانة ثقافة عامة وأسلوب تعامل شبه يومي. والأمر لا يحتاج إلى أمثلة لأن أكثر ما يجري حولنا من أحداث يصلح لأن يكون مثالاً. وأسوأ درجات اللامبالاة على الإطلاق الاستهانة بسفك الدماء. هناك حمامات دم تسيل وقتلى يسقطون يومياً. وما سقوطهم إلا مقدمة لسقوط غيرهم طالما بقي شعار «الدم بالدم والهدم بالهدم» مرفوعاً منذ أن صكه أحد الآباء المؤسسين للغلظة في المنطقة.
ستستمر إراقة الدماء ما لم يعد الحياء إلى الأحياء. والأحياء مشكلتهم مشكلة. إنهم خائفون ومنغلقون ومتأهبون. خائفون من أن تقتلهم دولة باطشة أو جماعة طائشة أو فرقة للدم متعطشة. ومنغلقون على الذات تغذي شكوكهم في الغير أجواء مسمومة بالحقد التاريخي والهواجس الطائفية واللعنات المذهبية. كما أنهم متأهبون لموت لا يطلبونه لكنهم ليسوا بمنأى عنه وهم يرون كل هذه السيوف والمدافع من حولهم. ولا يملك الخائف المنغلق المتأهب إلا أن يتصرف كما يتصرف أمثاله. أن يحمل السلاح ويستهين بالدم.
وتكشف الأرقام رخص الدم عند كثير من العرب. معهد الاقتصاد والسلام في أستراليا مثلاً يشرف على إعداد «المؤشر العالمي للإرهاب»، وهو من المؤشرات المركبة التي ترصد من بين ما ترصد عدد المدنين الذين قضوا في أعمال إرهابية. وبحسب تقرير 2015 تأتي أربع دول عربية على رأس الدول العشرة الأولى الأكثر سفكاً لدماء المدنيين بما تصل نسبته إلى 40.1 %. وترتفع النسبة إلى 76 % لو أضيف لكل من العراق وسوريا والصومال واليمن ثلاث دول إسلامية هي نيجيريا وأفغانستان وباكستان.
العراق مثلاً حقق الدرجة الكاملة من عشر نقاط بحسب هذا المقياس وجاء الأول عالمياً في إراقة الدماء. ولا عجب. فمنذ الأول من يناير 2016 وحتى الخامس والعشرين من هذا الشهر فقط سجل العراق سقوط 5298 قتيلاً مدنياً بحسب «إحصاء قتلى العراق» IBC، وهو تقرير يومي يدققه عشرات الباحثين البريطانيين والأميركيين منذ 2003 بقيادة كل من «جون سلوبودا» و«هاميت دارداجان». ويصل الرقم إلى 177125 قتيلاً لو أخذت الفترة ما بين 2003 و25 مايو 2016 في الاعتبار. ولا يسجل ذلك الرقم سوى عدد من أريقت دماءهم غدراً من المدنيين الأبرياء. أما لو أضيف القتلى من الميليشيات والقوات النظامية والجماعات المسلحة المنتشرة بطول العراق وعرضه فإن الرقم يتضاعف عشرات المرات.
لكن الأرقام تبقى في النهاية مجرد وسائل مساعدة لما باتت العين تراه بسهولة.. لقد أصبح الدم العربي للأسف والحسرة رخيص جداً.. كان العلامة السوري الفذ عبدالرحمن الكواكبي يقول «إن الحرية هي شجرة الخلد وسقياها قطرات من الدم المسفوك». وهو محق فيما ذهب إليه وتؤكده كل التجارب البشرية. لكن أكثر الدماء التي تهدر في المنطقة العربية لا تراق من أجل الحرية وإنما في اتجاه آخر تماماً. في اتجاه يغذيه دعاة الأفكار الدينية المتزمتة وأساطين النظم السياسية المتسلطة وأئمة القوى المذهبية والقبلية المتعنتة.
لقد فقد الدم غلاوته. وبدلاً من المسارعة إلى عصمه يجرى الاندفاع بجموح نحو هدره. باتت الصور اليومية للدماء والأشلاء أدوات تدريب على ثقافة الاستهانة بالإنسان والأسوأ بتعاليم خالق الإنسان.. ثقافة تشيع التوحش إن لم يكن بالقتل فبالكلام الخشن، وإن لم يكن في السياسة ففي التعليم والتجارة والفن. إنها ثقافة تسترخص كل القيم الجميلة والنبيلة والجليلة. ثقافة تجعل أتباعها يسمعون كلام الله ويخالفونه. يُتلى عليهم قوله تعالى «أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً» ومع هذا يقتلون ويفسدون.
إن ثقافة الاستهانة تلغي المعاني وتنتج متبلدين. وهؤلاء ليسوا عرباً فقط وإنما بينهم أيضاً أجانب كثيرون باتوا يرون كل هذه الدماء وهي تسيل ولا يتراجعون عن الإيغال فيها. إن ثقافة الاستهانة قابلة للتصدير والتدوير. إنها أبخس ما أظهره الإنسان عبر العصور لأن الاستهانة بالدماء تفتح الباب للاستهانة بكافة الأشياء.
بقلم : د. إبراهيم عرفات
copy short url   نسخ
30/05/2016
1765