+ A
A -
كانت الأمُ تجلي الصحون عندما دخل عليها ابنها الصغير وناولها ورقة وقال: هذه الفاتورة يا أمي!
جففت الأم يديها، وأخذت الورقة من ابنها فإذا فيها:
دولار أجرة قيامي بتنظيف طاولة الطعام، دولاران لاهتمامي بحوض الأزهار في الحديقة، وثلاثة دولارات للعلامات المدرسية العالية التي حققتها!
أخذت الأم الورقة بهدوء دون أن تُحدث ردة فعل، وجلست إلى الطاولة في المطبخ، وكتبت تحت ما كتبه ابنها ما يلي:
حملتك في بطني تسعة أشهر مجانًا، وذقتُ الموت وأنا أنجبك مجانًا، قمتُ من نومي لإرضاعك كل ليلة مجانًا، كل يوم أطبخ طعامك وأغسل ثيابك وأرتب غرفتك مجانًا، أداويك حين تمرضُ مجانًا، والعلامات العالية التي حققتها أنا درستك موادها مجانًا!
القصة رمزية ولم تقع فعلًا، وإنما الغرض منها أن نعرف أن ثمة ديون لا تُسدد ومواقف لا تُنسى، ليس في علاقة الأولاد بالأبوين فقط، فهذا دَينٌ اتفقت الأديان السماوية والأخلاق الحميدة والفطرة البشرية أنه لا يُسدد، وقد حملَ ولدٌ أمه المقعدة على ظهره وحجَّ بها، يطوف ويسعى ويرجم، فلقي عبد الله بن عمر فقصَّ عليه الخبر، ثم سأله: أوفيتها حقها؟
فقال عبد الله: ولا بطلقة من طلقاتها!
النبيل ينتهز أدنى فرصة ليسدد ولو جزءًا يسيرًا من معروف أُسدي إليه، وهذه أخلاق الأنبياء، يوم رُجم النبي صلى الله عليه وسلم في الطائف، وقفل عائدًا إلى مكة عرف أنهم لن يدعوه يدخل، وأنه لا بد أن يدخل في جوار أحد الأقوياء، فأرسل إلى مطعم بن عديّ ليجيره، فقبل مطعم، ودعا أولاده وفرسانًا من قومه وقال لهم كونوا عند البيت ثم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم إلى هناك ونادى في الناس: يا معشر قريش قد أجرتُ محمدًا فلا يقربنه أحد!
ولما كانت معركة بدر ونظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أسرى قريش قال: لو كان مطعم بن عدي حيًا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له!
وهذا من أبلغ دروس الوفاء في التاريخ!
ثم قد لا تأتي لحظة تسمحُ لكَ أن تردّ معروفًا أُسدي إليك، ولكن المهم ألا تنسى!
دخلت امرأة من الأنصار على عائشة رضي الله عنها في حادثة الإفك وبكت معها كثيرًا دون أن تنطق بكلمة!
تقول عائشة: والله لا أنساها لها ما حييت!
لم تنسها عائشة لها رغم أنها لم تكن إلا دمعات!
ولما تخلّف كعب بن مالك عن غزوة تبوك، وصدر القرار النبوي بمقاطعة كل من تخلف، لا سلامًا ولا كلامًا، ضاقت الأرض على كعب، ثم تاب الله عليه لما علم من صدق قلبه، فلما دخل المسجد مستبشرًا، قام إليه طلحة يهرول ثم احتضنه!
يقول كعب: لا أنساها لطلحة.
لم ينسها كعب رغم أنها لم تكن إلا عناقًا!
الديون ليست أموالًا فقط
الديون كلمة حانية في لحظة انكسار
ومواساة في لحظ حزن
ومساندة في لحظة ضعف
وإرشاد في لحظة تيه
ونصيحة في لحظة طيش
وضمة في لحظة عزاء
وتربيتة على كتف وقلب في لحظة وهن
هذه ديون مسموح ألا تُسدد ولكن من العار أن تُنسى!

بقلم : أدهم شرقاوي
copy short url   نسخ
27/03/2018
4332