+ A
A -
لا تنتج مشكلاتنا العربية المعقدة عن ظروف المنطقة الشائكة فقط وإنما ترجع قبل ذلك إلى تصوراتنا المعيبة وطرق تفكيرنا الجامدة. وليس من حل جذري لأية مشكلة قبل مراجعة عميقة لما يستحوذ على العقل العربي من أوهام وتصورات خاطئة وسمات تفكير معيبة. ومن أبرز تلك التشوهات ميل العقل العربي بشكل عام لأن يحل لنفسه ما يحرمه على الآخرين.
أن يسمح لنفسه بادعاء تميز قد لا يملكه على الآخرين فيما يلومهم لو تباهى واحد منهم بتميزه، بل وقد يغضب منهم أحياناً لمجرد أنهم يظهرون قدراً من التمايز والاختلاف. والفارق بين التميز والتمايز أن الأول شعور بالتفوق على الغير بينما الآخر شعور بالاختلاف عنهم. والتمييز بين الاثنين مهم. لكن العقل العربي لا يميز عادةً بينهما وإنما يرفضهما ويكرههما معاً. فلا يقبل أن يتفوق عليه أحد، ولا أن يختلف معه أحد.
وتتجلى مشكلة التمييز بين التميز والتمايز بوضوح في علاقة العربي ببني جلدته بشكل خاص. فدولنا العربية تغير بشدة من بعضها لأتفه الأسباب حتى لو كان بسبب مباراة كرة أو لتعلية بناية شاهقة لبضعة أمتار. كما أنها تبالغ كثيراً في المفاخرة بذاتها وتستفيض أكثر في الانتقاص من الآخرين. والمشكلة أن ذلك متى استقر في وعي الإنسان وأنه المتميز دون الناس فالأغلب أنه لن يقبل بأن يكون للآخرين رأي مخالف له، فينكر عليهم حقهم في التمايز بعد أن استنكر دعاواهم بالتميز.
وليس بمستغرب أن يعتقد كل عربي أن بلده أكثر تميزاً عن غيرها أو أن لديها أمهر الكوادر وأكفأ العقول وأفضل موقع وأعظم موارد. فالاعتقاد بتميز الذات من صميم الغريزة الإنسانية. كذلك ومن باب حسن الظن يمكن اعتبار مثل هذا الإحساس بالتميز علامة على حب الوطن ودليل على تبلور كيانات وطنية عربية مستقلة. كل هذا يدخل في عداد المشاعر الطبيعية. لكنها تبقى مشاعر ناقصة وغير مرشدة. فإحساسنا بالتميز عن الآخرين لا يكتمل إلا لو رافقه قبول بحقهم في التمايز عنا. أن يكونوا مختلفين معنا حتى نعرف من نحن وحتى يوجد سبب للتنافس يمكن من خلاله أن نثبت تميزنا. فالتميز على الغير لا يتأكد ما لم تكن هناك مساحة للتمايز عنهم تعطي الجميع الحق في تقديم نفسه وإظهار قدراته. أما بدون القبول بالتمايز فالأغلب أن يتحول الإحساس المبالغ فيه بالتميز إلى عنصرية مقيتة وشعور بالاستعلاء.
وفي خضم المشكلات العربية المعقدة لا مفر من أن يساعد العقل العربي نفسه بترشيد إحساسه بالتميز وقبول حق الآخرين في التمايز. والأمران مرتبطان. فلا يمكن أن يتفادى العرب مخاطر مبالغاتهم في الإحساس بالتميز المتصور على بعضهم إلا إذا آمنوا أولاً بحق كل منهم في التمايز عن بعضهم. فالتمايز من الناحية النظرية مبدأ مشروع لا يجب أن يرفضه إنسان. ومن الناحية الفعلية كان ينتظر أن يرسخ التمايز في أذهان كل العرب على ضوء أكثر من نصف قرن من فواجع مؤلمة انتهت بفشل الخطاب القومي في منع العرب من أن يختلفوا عن بعضهم ومع بعضهم.
وتحتاج تنمية الإحساس بالتمايز إلى القبول مبدئياً بتباين المواقف بالذات مع من نعرف أنهم أخوتنا ووضع المسافات المناسبة معهم. فالأخوة قد تزيد تبعاتهم أحياناً على الغرباء لأن النظرات المتطابقة، بالذات في السياسة، بقدر ما فيها من روعة فيها أيضاً كثير من الترويع. فمن ينتظر من إخوته وأصدقائه التطابق معه في الرأي قد لا يتوقع منهم غير تطبيق توجيهاته. وهذا خطر بالغ بالذات في إقليم اعتاد النظام الدولي أن يحرق فيه جزءًا كبيراً من نفاياته الاستراتيجية وأيضاً بسبب تاريخ عربي معقد مسكون بميراث مشين من عدم الثقة ونتيجة كذلك لاستبداد مزمن لم يواجه مأزقاً في الداخل إلا وافتعل مشكلة في الخارج لتصريفه.
وللتمايز DIFFERENTIATION عدة أشكال. فهناك تمايز التناقض والتضاد وقد عرفه كثير من العرب عندما جعل بعضهم من البعض الآخر عدواً وتهديداً رئيسياً. ثم هناك تمايز الانسحاب بالنأي بالنفس عن الآخرين والعيش بعيداً عنهم وعن مشكلاتهم. وبرغم محاولة دولة أو اثنتين تطبيقه إلا أنه ثبت أنه لا يمكن أن يتحقق في منطقة تتداخل فيها الخيوط بشدة. وهناك تمايز النصيحة عندما يحاول الخطاب السياسي تقديم لغةً مختلفة عن ما يقوله الآخرون. وهو تمايز ناقص لأنه يقتصر على الكلام الذي كثيراً ما ينتهى بين بلادنا إلى مشكلات حادة. أما التمايز الأهم فهو تمايز الأفعال. هو الذي يغير ويعطي لكل دولة شخصيتها وخصوصيتها ويفتح الباب أمامها من ثم للتميز بشرط وحيد هو أن يكون تمايزا رشيدا لا يقوم على المناكفة وإنما على تقديم الأفكار وعرض الآراء دون الإصرار على أن يأخذ بها الآخرون.

بقلم : د. إبراهيم عرفات
copy short url   نسخ
19/03/2018
5585