+ A
A -
حتى في الديمقراطيات العريقة والمستقرة يمكن للعملية الانتخابية أن تنتج أسوأ الخيارات. الولايات المتحدة أعطتنا درسا قاسيا في هذا المضمار؛ البلاد التي تأسست على اكتاف المهاجرين تنتخب رئيسا يعادي الهجرة، ويغرق بفضائح يندى لها الجبين.
لقد انهارت فعليا القيم الإخلاقية للعملية الديمقراطية أمام سطوة الشعبوية.
إيطاليا ذات التاريخ الديمقراطي المتقلب والمضطرب، سقطت أخيرا في فخ اليمين المتطرف والحركات الشعبوية الصاعدة. اليمين واليمبن المتطرف ومن بعده حركة «خمس نجوم» تقاسمت الصدارة في نتائج الانتخابات التشريعية، وسط تراجع مذهل للأحزاب العريقة من اليمين واليسار المعتدل.
«خمس نجوم» حركة شعبوية لم يمض على تأسيسها وقت طويل اتخذت من العداء لمؤسسات الحكم شعارا لها. استفادت دون شك من الغضب والسخط الشعبي على النخب السياسية التي تناوبت على حكم إيطاليا لعقود طويلة، وفي سجلها أطنان من قصص الفساد والعبث باقتصاد البلاد.
يقال في تحليل ظاهرة الحركات الشعبوية واليمينية المتطرفة أنها رد فعل جماهيري على انهيار المنظومة القيمية للنخب والأحزاب المهيمنة في البلدان الديمقراطية.
هذا التقدير صحيح إلى حد كبير، لكن ما الذي يدفع بالناخبين لاستبدال أحزاب شاخت بحركات شعبوية طائشة لاتملك غير الشعارات الفارغة؟
للمسألة على ما يبدو علاقة بصعود الوطنيات والمشاعر القومية من جديد حتى في أوروبا التي تجاوزت باتحادها هذه الهويات وأسست لهوية أوروبية واحدة، تواجه حاليا اختبارا مؤلما بعد خروج بريطانيا وتململ قوميات وإثنيات عديدة.
الأزمة ليست وليدة اللحظة. فقد كانت تنمو مظاهرها في أحشاء الديمقراطية الغربية منذ سنوات. ظاهرة برلسكوني مثال حي على فساد المنتج الديمقراطي. ترامب ليس سوى الابن الشرعي لنفس الظاهرة. امبراطورية مالية تتحكم بالحياة السياسية ووسائل الإعلام على رأسها زعيم شعبوي تلاحقه الفضائح المالية والجنسية، وتمنعه بحكم قضائي من تولي المناصب العامة لسنوات، ومع ذلك يتمكن تحالفه الانتخابي من تحقيق نتائج مرضية في الانتخابات الإيطالية.
الديمقراطية الفرنسية العريقة أنتجت ظواهر مشابهة، كان ساركوزي نجمها اللامع إلى جانب اليمين المتطرف الصاعد في كل دورة انتخابية. وفي آخر جولة انتخابية عاقبت الأمة الفرنسية أحزابها التاريخية وانتخبت رئيسا بخبرة سياسية محدودة، ومن خلفه حركة تأسست قبل الانتخابات بقليل.
بكلام آخر،النسخة الأوروبية من الديمقراطية تواجه مأزقا تاريخيا. لم تعد هي المثال المحتذى، ولا التجربة التي يمكن نسخها وتعميمها دون نقاش. حولها أسئلة كثيرة ومستقبلها محل شك.
الرهان السائد هو أن الديمقراطيات العريقة قادرة على تصحيح أخطائها وتصويب مشاكلها بنفس الوسائل والأدوات الديمقراطية. لكن ذلك لا ينفي الأخطار المحدقة بالديمقراطية ولعبة الصناديق الانتخابية. الشعبوية المسنودة اليوم بثورة الاتصالات وإعلام التواصل الاجتماعي، تبني لنفسها قواعد اجتماعية وثقافية صلبة. لقد حولت الكراهية كسلوك منبوذ لثقافة، والعداء للآخر إلى برامج سياسية تنافس في الانتخابات وتربح. ولقد ربحت بالفعل في أميركا ودول أوروبية عريقة.
الديمقراطية قيم إنسانية إذا ما انفكت عنها تحولت إلى لعبة قاتلة تجلب معها لسدة الحكم الأشرار والمجرمين. ألم تجلب الديمقراطية هتلر وموسيليني من قبل؟!

بقلم : فهد الخيطان
copy short url   نسخ
16/03/2018
2234