+ A
A -
لا تكف موازين القوى في النظام العالمي عن التغير بمعدلات تتسارع باطراد.. فحتى منتصف القرن الماضي كانت أوروبا لاتزال تشكل مركز الثقل الرئيسي في النظام العالمي، غير أن الصراع المحتدم آنذاك بين القوى الأوروبية الكبرى، خاصة ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة، للهيمنة المنفردة على النظام الأوروبي المتحكم في مصير النظام العالمي، ما لبث أن تسبب في إشعال نيران حربين عالميتين، أسفرا في نهاية المطاف عن تراجع مكانة القارة الأوروبية ككل، وتقدم قوى من خارجها، الأمر الذي ساهم في ولادة نظام عالمي ثنائي القطبية تقوده الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي..
وخيل للبعض وقتها، خصوصاً بعد أن استقرت بين القوتين العظميين المتنافستين ضوابط أملتها قواعد الحرب الباردة وموازين الرعب النووي، أن النظام العالمي ثنائي القطبية سيدوم إلى الأبد.. غير أن التطورات التي طرأت على موازين القوى في النظام الدولي ثنائي القطبية ما لبثت أن خيبت هذه التوقعات.
ففي نهاية الثمانينات، بدأ الاتحاد السوفياتي يتصدع، وماهي إلا شهور قليلة حتى كان ينهار مفسحاً الطريق لنظام عالمي جديد أحادي القطبية.. ومرة أخرى تصور البعض أن النظام العالمي وصل إلى منتهاه، بتحوله إلى قرية كونية واحدة، وخرج علينا فوكوياما بنظرية «نهاية التاريخ» التي تبشر بالانتصار النهائي للرأسمالية كركيزة اقتصادية للنظام العالمي الجديد، ولليبرالية كركيزة سياسية– اجتماعية لهذا النظام، وبالهيمنة المنفردة للولايات المتحدة الأميركية عليه.. غير أن التاريخ ما لبث أن أثبت مرة أخرى فساد هذه التوقعات المتعجلة، بعد أن تبين أن النظام العالمي أحادي القطبية غير قابل للصمود، وأنه في طريقه للتحول إلى نظام متعدد القطبية، خاصة بعد الصعود التدريجي للصين واستعادة روسيا الاتحادية لجانب من مكانتها المفقودة، وتراجع الوزن النسبي لمكانة وثقل الولايات المتحدة الأميركية.. واليوم، يجمع خبراء العلاقات الدولية على أن مركز ثقل النظام العالمي بدأ ينتقل تدريجياً، منذ سنوات إلى القارة الآسيوية التي يقطنها أكثر من نصف سكان العالم وتتسم اقتصادات العديد من دولها بدينامكية هائلة ترشحها لقيادة النظام الاقتصادي العالمي في الأمد المنظور.. غير أن الأمر لم يعد يقتصر، فيما يبدو، على تطلع عدد من القوى الآسيوية الكبرى، في مقدمتها الصين واليابان والهند، للمشاركة بدرجة أكبر في قيادة النظام الاقتصادي العالمي، وإنما بدأت تتنافس فيما بينها على الصعيدين السياسي والإستراتيجي في الوقت نفسه. ففي عام 2013 أعلنت القيادة الصينية عن مبادرة لإعادة إحياء طريق الحرير، وهو مشروع عملاق يستهدف تحريك عجلة التنمية على جانبي طريق يصل طوله إلى 12 ألف كيلومتر، ويمتد من مدينة شنغهاي الصينية حتى العاصمة البريطانية لندن.. وقد رصدت له الصين مئات المليارات من الدولارات أعلنت أنه سيتم تخصيصها لتحسين البنية الأساسية، من طرق برية وموانئ وسكك حديدة.. ولأن الدول الواقعة على جانبي هذا الطريق تشكل حزاماً يبدأ من الموانئ الصينية وينتهي إليها، فقد تم إطلاق اسم «طريق واحد..حزام واحد» على هذا المشروع العملاق، وقامت القيادة الصينية بتوجيه دعوة إلى كافة الدول المرشحة للمشاركة والاستفادة منه، لبتها 62 دولة.. ورغم إصرار الصين على تأكيد طابعه الاقتصادي والتنموي، إلا أن الأهداف السياسية لهذا المشروع الضخم لا تخفى على أحد، وربما يذكرنا بشكل أو بآخر بمشروع شومان الذي أطلقته الولايات المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية للحيلولة دون سقوط أوروبا الغربية فريسة التمدد الشيوعي، الأمر الذي دفع اليابان لطرح مشروع منافس أطلقت عليه اسم «محيط هادي وهندي.. حر ومفتوح».. وتقول اليابان إن مبادرتها تستهدف تأمين حرية الملاحة في المحيطين استناداً لقواعد القانون الدولي، وإلى تعزيز التعاون الاقتصادي والأمني بين الدول المشاطئة التي تضم دولاً آسيوية وإفريقية وشرق أوسطية، وكان لافتاً للنظر مسارعة كل من الولايات المتحدة والهند وأستراليا بإعلان تأييدها لهذا المشروع الذي بدأ يثير نقاشاً واسعاً على المسرح الدولي، ويرى فيه البعض رداً يابانياً على المشروع الصيني. فهل يذكرنا ما يجري في القارة الآسيوية اليوم بما جرى في القارة الأوروبية في النصف الأول من القرن العشرين؟
بقلم: د. حسن نافعة
copy short url   نسخ
15/03/2018
2698