+ A
A -
ظلت المنطقة العربية ومنذ بدايات الهيمنة الاستعمارية الأوروبية في بدايات القرن التاسع عشر تبحث عن توازنها الاستراتيجي من اجل استعادة دورها وقدرتها على التأثير على المستوى العالمي، ولئن تميز النصف الأول من القرن العشرين بحالة من الاستنهاض الجماعي من اجل التحرر من الاحتلال الأوروبي ثم شهدت الفترة الثانية من نفس القرن محاولات لبناء نموذج تنموي ناجح. غير أن الوقائع على الأرض تثبت عجزهم عن إدارة صراعاتهم أو بناء نهضاتهم من خلال تصورات استراتيجية واضحة من حيث التوجهات والتحالفات.
فالثورة العربية الكبرى التي وضعت كل آمالها في حضن البريطانيين وساهمت بشكل مباشر في تسريع انهيار الدولة العثمانية لم تدرك أنها في النهاية قد فقدت أي قدرة على الاستمرارية ذلك أن الحليف البريطاني المفترض كان يعمل ضمن أجندات واضحة ومحددة أهمها السعي إلى منح الكيان الصهيوني فرصة التشكل وبناء أسس دولته. وفي المرحلة الموالية تحول تحرير فلسطين إلى شعار مركزي لكل الدول التي شهدت انقلابات عسكرية وكما كان الحلف مع البريطانيين فاشلا اختارت هذه الأنظمة التحالف مع الاتحاد السوفياتي باعتباره صديقا يمكنه أن يساعد على تحقيق التنمية والتحرير ولم ينقض عقد واحد على موجة الانقلابات في المشرق العربي حتى كانت هزيمة 1967 المدوية وكالعادة لم تنظر هذه الأنظمة إلى الأسباب الحقيقية للهزيمة وحمّلت المسؤولية للعدو الخارجي ونظرية المؤامرة المعتادة رغم أن القاصي والداني يدرك أن الدول جميعا تتصارع وتسعى إلى خلق نفوذ لها في مناطق الضعف السياسي. المشكلة أن الأنظمة السياسية العربية جميعا تصرفت بمنطق البحث عن نصير خارجي دون أن تفكر يوما في الاستعانة بشعوبها ومنحها فرصة التعبير والبناء ولهذا عندما جاءت لحظة الربيع العربي عادت هذه الأنظمة لمربع سلوكها الأول من خلال وصف الثورات بالمؤامرة ومن ثم السعي إلى إفشالها وانتهاء بالاستعانة بالقوى الكبرى لمحاربة كل من يتمرد على خياراتها ولتمارس نوعا من التعمية خلطت خلالها بين جماعات العنف والإرهاب من جهة وبين القوى الديمقراطية من جهة وكان الغرض هو التخلص من الشق الثاني تحت شعار محاربة الشق الأول.
وفي سياق التحالفات فقد أساءت هذه الأنظمة التقدير حيث عمدت إلى البحث عن تحالفات غير طبيعية في صراعاتها الإقليمية من قبيل السعي إلى التحالف مع الصهاينة ضد الإيرانيين ومحاولة شيطنة الجار التركي وهو حليف مفترض بحكم التاريخ والمصالح وانتهاء بالسعي إلى ضرب كل القوى المحلية من أحزاب ومنظمات التي كان بإمكانها المساعدة على بناء المرحلة. إن كل هذه الخطايا السياسية المستمرة التي وقعت فيها كثير من الأنظمة العربية جعلت شعوب المنطقة تتحرك خارج التاريخ وغير مدركة لطبيعة المرحلة مما دفع بعض الشباب إلى حلول عدمية أو فوضوية وفي المقابل تم إهدار فرصة الاستفادة من حالة التعبئة النفسية التي خلقتها الثورات العربية بما قد يمثل رافعة لبناء الديمقراطية التي كانت ستشكل رافدا للتنمية الاقتصادية. فضرب حلم الجيل الجديد في التحرر وإعادة البناء جاء لمراكمة الفشل العربي المتوارث والعجز عن حل مشكلات الشعوب والنهوض بالأوطان، فوأد التجربة المصرية عن طريق انقلاب عسكري لم يخلق سوى صورة مشوهة لنظام استبدادي ظل جاثما على الشعب منذ 1952 وتم ضرب الثورة اليمنية في مقتل عبر تدخلات دول الجوار والعبث الإماراتي السعودي في ليبيا أدى إلى مزيد تفاقم الوضع وتأخير فرصة هذه الدول في بناء ذاتها عن طريق جهود شعوبها وفي المقابل تحولت سوريا إلى منطقة مستباحة لجميع أنواع التدخل الدولي فالحاكم الذي تنازل لكل دول الأرض ورفض مصالحة شعبه لم يخلق سوى كارثة إنسانية ليس لها نظير.
لقد تفننت كثير من الأنظمة العربية في إضاعة الفرص المناسبة لبناء نهضة حقيقية وتفرغ بعضها للتآمر على البعض الآخر وبذل الجهود لإفشال الربيع العربي الواعد غير أن الأكيد انه من الممكن تأجيل لحظة تحرر الشعوب ولكنها قادمة لا محالة لأن للتاريخ سننا كونية لا يمكن نفيها أو تغييرها والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

بقلم : سمير حمدي
copy short url   نسخ
06/03/2018
2590