+ A
A -
جَرِّبْ، جَرِّبْ أن تَصْرُخَ، اُصْرُخْ إلى أن تَسقُطَ أسنانكَ تباعاً، لا تَقلقْ يا صديقي، فأسنانكَ لن تَسقطَ إلا بعد أن تَصطدم صرختُكَ بعرض الحائط لِيُسَدِّدَها في مرمى فَمِكَ بعد أن يرَكلَها كالكُرَة..
الصرخةُ التي تُسْقِطُكَ مِن أعلى بُرج التمني ولا تَسقط، لا تَسقط الصرخةُ، سَتُعَلِّمُكَ أن تَعدّ أسنان فمِكَ قبل أن تُذيبَ فَمَكَ الصرخةُ..
اُصْرُخْ كما تَشاء، فلا أحد سيَسْمَعُك، لا أحد سيُعِيرُكَ اهتماماً وأنتَ في قَبْوٍ مُظْلِم وبارد يُسَمَّى الحياة، الحياة التي لا أحد يراكَ فيها ليَسْمَعك، الحياة التي تَبرد فيها المشاعرُ، مشاعرك، ويَبرد فيها إحساسُ الآخَرين بك..
في زمن يَبيعك ويَقبض السِّعر، ليس أمام إيقاع الروح إلا أن يَضبطَه الشِّعر. غير أن الشِّعر الأخرس هو الأكثر توافقاً مع أمزجة الروح، وهو الأكثر تماشياً مع مُيولاتها..
ولأن الرسمَ شعر أخرس، فإنه يَختزن ما لا يختزنه بيت، نتحدث عن بيت الشِّعر الذي كثيراً ما تَضيق حدودُه، فيَعجز عن أن يَقول ما تَقوله ألسنةُ الألوان..
بِصوت الألوان الناطقة بلسان الإنسان يُطلِق صاحبُنا إدفارد مونش EDVARD MUNCH صرخَتَه الأمَّارة بإضراب عن الكلام.. إنها «الصرخة».
«الصرخة» عنوان واحدة مِن أبرز لوحات الفنان التشكيلي النرويجي إدفارد مونش، هذا إدفارد المعبِّر بالريشة والألوان عن مأساة حياة الإنسان..
صرخة إدفارد لم تأتِ من فراغ، لماذا؟! لأن المسار الحافل بالمعاناة التي خَبَرَها إدفارد جعلَتْه يَنقل تجربتَه الْمُرَّة إلى قلب الإطار الفني التشكيلي ليَعتصر مرارةَ التجربة بقدر ما يَعصر قلبَ اللون العاكس لِضَرْبَة القَدَر التي لا تُخْطِئ ذوقَ مرماك..
وَجْهٌ لا وجه له يَلطم خديه صارخاً ملء فمه، لكن، لا أُذن لِمَن تُنادي، فجِسْرُ الحياة الطويل عابروه لا موعد لهم مع الإنصات، ولا محطة تَربطهم بالآخَر المقيَّد بحدود الزمن والمكان..
لذلك يتراءى لك الجسرُ مُعَلَّقاً، تماماً كما هي الحياة، الحياة جِسر مُعَلَّق، أو لِنَقُلْ إنها حبل انتظار ممدود على نهر اللاجدوى..
لوحة إدفارد مونش تحتمل قراءتين:
فمرة يَتبادر إلى ذهننا وجه الشخصية المصاب بالرهاب نتيجة الوقع الجبار للسماء المزمجرة بصرختها حتى البكاء، إنها السماء التي تُزلزل الكونَ بدرجات لونها القريبة من الحمرة من باب الإيحاء بلون الغضب والدم.. مَشْهَد كهذا يُبدي لكَ يقيناً مدى ضعفك أنت الذي لا يُساوي حضورُك أكثر من حضور نملة، لكن صخب صوت السماء كفيل بأن يُذيبَ حواسكَ..
ومرة أخرى، نقرأ اللوحة بشكل عكسي، إذ تبدو لنا الشخصية (الشبح) هي نفسها تشكل مصدر الصوت الذي يلفظه فمُها، لكن أذنيها لا تَقويان على تحمله.. بل إن السماء نفسها يَتغير لونُها مِن فرط التأثر أو التضامن مع الروح الثائرة ثورة بركان..
من جهة أخرى، لا معنى لصرختك، ولا معنى لوجودك بالمثل في مكان لا يَحترم بواعث صرختك أنتَ الذي يَكفيكَ أن تَصرخَ لِتَسمَعَ صوتَك، ولا تَحلم بأكثر من هذا..
صرخة إدفارد تَحملك إلى عالم اللامعنى، هي تَنقلك إلى المكان الطبيعي الذي لن تَتردد في أن تُصَدِّقَ أنك مُعَلَّق على عموده، مُعَلَّق كالساعة، لكن ساعتك تَعَطَّلَتْ عقاربها، لذلك تَجَمَّدَتْ ساعةُ حياتِك مادامَتْ عقارب حياتك لا تَدور.. كيف تَدور وصوتك يَدور حول نفسه؟!
في ظِلّ الصرخة الهاربة بلاجدوى، ما معنى أن تَستمرّ أنتَ؟!
أن تستمر أنتَ خارج نطاق التموقع الروحي، هل سيقودكَ هذا إلى القبض على ذيل روحك المتشظية؟!
روحك المتشظية في أيّ مُفْتَرَق طُرُق حياةٍ ستَقِفُ بك أنتَ الذي تَكفر بحياتك؟!
حياتك أيّ معنى لها بعيداً عن مركز رغبتك في الثورة على كل ما يجردها من معناها؟!
بين المعنى واللامعنى بدايةُ التحدي ونهاية العصيان في قانون التمرد على الصمت، إنه الصمت الذي يُجَسِّدُه إدفارد مونش في صورة الصرخة الثائرة ثورةَ المحارِب بلا سيف..
ألوان نُوستالجية تُسَيِّجُ مساحةَ الصرخة الهاربة من زمن إدفارد مونش لِتَصِلَهُ بزمننا الغارق بسفينة الإنسان في بحر العبث، وما نحن سوى مُسَخَّرِين لرحلة العبث التي نَفتح لها أفواهنا ولا تَفتح لنا بابَ الخلاص..
في لوحة إدفارد ظلال سوداء تُؤَجِّل موعدَ الوصول إلى شاطئ الحنين، صَدِّقْ يا صديقي، إنه شاطئ الحنين الذي تَعِدُكَ به الألوان دون أن تُشفي أنتَ الغليلَ بوَصلٍ..
الظلال السوداء تَلبسها أنتَ لِتُصَيِّرَكَ شبحَ الوقت الهارب من نَفَق الإنسانية الْمُظْلِم، ولا غرابة ألاَّ يَحْتَفِظَ لك إدفارد في لوحته بأكثر من لونِ الظلمة على امتداد النَّفَق ذاك، ناهيك عن ملامح وجهٍ بدون ملامح يُعيدك لونُه إلى سيرتك الأولى أنتَ المتسلل إلى دائرة الضوء مِن قلب حقول الطِّين..
جِسر قصير الأمد يَحول بينك وبين الموت الْمُتَغَوِّل كلما أَطْلَلْتَ إلى الأسفل، الأسفل الذي لا يَليق بك أن تَنظر إليه وأنتَ مُتَأَهِّبٌ لِمَا بعد الصرخة، كأنكَ، كأنك تَستشعر أن قدميكَ ستَنزلقان لِتَسْتَدْرِجَكَ الواحدةُ منهما إلى حفرة جهنم..
لا جدار يَفصلك عن حفرة الموت الحقيقي أنتَ القابع في نقطة على طريق حياةٍ مع وقف التنفيذ، لا شيء يَفصلك سِوى قضبان أفقية تَسمح لجسدك الهزيل الضائع تحت عباءة الوقت بالقفز إلى اللازمن بعيداً عن مدار اللاحياة..
صرخة إدفارد مونش صرخة تُذِيبُ فَمَ الرغبة في الحياة. وصوتُ الحياة، باعتباره النص الغائب، يُبَدِّدُ حظوظَك في ربط الاتصال بالحياة كما لم تَكُنْ يوماً مِن نصيبك..
الصرخةُ الصماء هي تُشبه في صيرورتها المرأةَ الزرقاء التي تَعِدُكَ ولا تَفي. الصرخة في لوحة إدفارد مونش تَمتدّ قُبالَتَها الحياةُ كلسان نار يَلفّك ويَطويك بين فَكَّيه..
على قارب الصرخة، تتراءى أنتَ لإدفارد مونش مُوغِلاً في صحراء وجود لا يَعترف بوجودك، غير أنكَ تَظَلُّ عالقاً بين سماء وأرض: سماء الحُلم في أن تُعَانِقَ صرختُك وَتَرَ الإحساس عند مَن يُرجى منهم أن يَتَلَقَّفُوا نداءَكَ الصارخ، وأرض الحقيقة التي تَستدرجك إلى مَسقط رأسك في حياتك الثانية، حياة ما بعد الموت..
لوحةُ إدفارد مونش تَرسم حدودَ متاهة، متاهة تَكفي لِتُبَعْثِرَ صرختَك في مُدُن اللاضوء التي لا تُؤمِن بالضوء المنبعث من فَمِكَ راغباً في عناق..
لونُ الحنين يُغَلِّفُ سماءَ لوحة العبث التي كتب فيها إدفارد مونش بِحِبْرِ الألوان ما لا يَكتبه شاعرٌ بالْمَهْزَلَة، والأغرب أن يَكون لكَ في هذه المهزلة دورُ البطولة..
العابرون قُدَّامَكَ في لوحة إدفارد لا يَحفلون بصرختك، لماذا؟! لأنهم يُسقِطون الصرخةَ مِن قاموسهم ولا يَعترفون بِمَن يَعترف بها.. لذلك تَراهم في لوحة إدفارد لا يُحَرِّكُون ساكناً، وكأن الطريقَ الذي يَعبرونه يَقودُهم إلى مركز الضوء..
في متاهةٍ كَتِلْكَ التي يؤطر إدفارد معناها في لوحة، لا تَحْلُمْ بموعد مع الضوء، وحتى أولئك الذين يَحلمون به هُمْ فاقِدو الإحساس إلى الدرجة التي لا تُصَوِّرُ لهم كثبانَ العبث التي تَعترض قدميكَ أنتَ الشاعر بما لا يُلْهَم به شاعِر..
درجةُ ضياعك في الحياة العابثة بكَ هي التي تُبَرِّرُ قدرتكَ على تسليط الضوء على رمال العبث المتحركة التي تَأكلكَ، تَأكلك مهما صرختَ مُعْلِناً أنها تَأكلك، فلا سَمْع لِمَنْ تُنادي في صحراء اللامعنى..
أنتَ الهارِب مِنَ العبث إلى العبث (يَقول لك إدفارد مونش) لا شيء في انتظارك سوى الجنون، لا شيء ستَقُودُكَ إليه صرختُك سوى الكفر بِدِين الصوت، ولا أُحَدِّثُكَ عن فمِكَ وما في انتظاره مِن رحلة ذوبان إذا لم تَسْتُرْكَ الألوان..
ألوان لوحة إدفارد مونش فاضحة، ألوان إدفارد تَقول لكَ ما لا تَقوله الحياةُ، تلك هي الحياة التي تَحضنكَ، تَحضنك وتَحضنك إلى أن تَعصرك أو تَكسر أَضْلُعَكَ.. فلا مكان لِتَسْتَفِيدَ مِن شيء في حضن حياةٍ عابثة..
حياةٌ عابثة تَراها تُبْعِدُكَ عن نَفْسِكَ بِقَدر ما تَلتصق بكَ هي الحياة، حياة هي لا أبواب لها لِتُعيدَكَ إلى قريةِ نَفْسِكَ الآمنة، حياة هي لا نوافذ لها لِتَسمح لك بإطلالة على صحن الروح، إنها الروح التي يَطيب لكَ أن تَستحِمَّ في حوضها وتَنتشي بالتقاط حَبِّ الحُبّ الذي يُلْقِيه قريبا منكَ قَدَرُكَ..
مِن الذهول إلى الخوف فالترقب والقلق، هذه أبرز المحطات التي يأخذنا إدفارد في جولة لنتعرف إليها عن قرب في لوحته. غير أن تيمة القلق تُشَكِّلُ المظلةَ التي يقف إدفارد تحتها متأملاً وجهَ الحياة كما لم يَسْتَسِغْه..
القلق لم يَكُن النصَّ الغائب في متاهة إدفارد، يكفي أنه تَأَقْلَمَ على التعايش معه مُنذ أن شَكَّلَ السياقَ العام الذي تَمضي عليه حياتُه قبل أن يَفقد أَعَزَّ الأَحِبَّة في أسرته، لتكتمل حصيلةُ الفَقْد بالغةً ذروتَها مع بداية السفر في ليل الجنون ما أن صرخَت الحياةُ في وجه أخته التي لم يَرحم العتهُ أُنوثتَها..
شبح مريب هو القلق، وهو وحده كفيل بأن يَجعل زمنَ إدفارد يَقف به على ساق واحدة. هذه حالهم هم المعذَّبون، فكُلٌّ منهم مسكون بِهَمّ إبداعي يَجعله يَدفع ضريبةَ النجاح والتمرد والخروج عن النص الذي لا يَشذّ العاقلُ عن قاعدته..
فهل كُلُّ المبدِعين مجانين؟!
أم هو الجنون الخلاق لِفَنّ تُصَفِّقُ له الألوان، وتَطرب له راقصةً مشاعرُ الإنسان؟!
الكلمةُ للرُّوح النَّشْوَى انتصار للكتابةِ بالإحساس.

بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
03/03/2018
3567