+ A
A -
وقفت امرأة من أهل المدينة على منزل قيس بن سعد بن عبادة، وكان من أجود الكرماء.. فقالت: أشكو إليك قلة الجرذان في بيتي..
فقال: لأملأن بيتك بالجرذان..
وأمر غلمانه فملؤوا لها بيتها رزقًا حسنًا
من الطعام والمؤونة.
هكذا، قبل أن تَلْتَقِطَ المرأةُ أنفاسَها مُعْرِبَةً عن ارتياحها حتى يَكون صاحب الجُود قد بَعثَ غُلامَه إلى بيتها لِيُغْدِقَ فيه عليها بما لَذَّ وطابَ مما يَشتَهيه مَن خَبَر الحرمانَ والعذابَ.. ولا غرابة أن يَهجرَ الفأرُ البيتَ الذي يَغيبُ عنه ما يُسيلُ له اللعابَ..
دَرْسٌ في الرحمة والإحسان ما أَحْوَج الإنسان في زمن الطغيان إلى تَعَلُّمِه، ومِن ثمة العمل بمراميه ومقاصده؛ فلا شيء قد حَرَّكَ الكريمَ بْنَ الجُود سِوى الإحساس بِغبن المرأة التي تَرمز دائمًا إلى المستضعَفين، وكان من كَرِيم عنايةِ سَيِّدِ الْمُرْسَلين بها أن أَوْصَى قائلاً: «رِفْقاً بالقَوارير»..
في زمن الصحوة، كان يُحَزِّمُ المرءُ بَطنَه مِن شِدَّة الجوع، وفي زمننا يُحَزِّمُ الواحدُ منهم مَعدتَه مِن فَرط الشبع.. في أيام العِزّ التي خَلَتْ، كان الصالحون يَتحملون قهرَ الجوع ولا يَتحملون قهرَ الرجال حَدَّ أن تُمرَّغَ كرامتُهم في التراب، أما في أيام السقوط التي تَلَتْ، ها أنتَ تَرى كيف يَمسحون الأرضَ بقميص الرجولة، الرجال الأحرار يُقاومون الموت ويَغرقون في بحر الدم والدموع، بينما المحسوبون على الرجال يقاومون الشبع حدّ التخمة ويُلْبِسُ الواحدُ منهم مَعدتَه خاتمَ الرشاقة كأنَّ لا علاقة له بخاتَم الرجولة الضائع..
لَكمات تَنَالها الصرخاتُ، صرخات الأبرياء، مِن باب قَمْع الصوت بسياسة السَّوْط، أَهُنَاكَ أَسْوَأ مِن سَوْط الكائنات البشرية الأَعْنَف من الوحوش الضارية؟!
كأَنَّ الواحدَ مِمَّنْ يحرقون الزرعَ ويَزرعون الرصاصَ قد اقْتَلَعَ قَلْبَه وأَلْقَى به في البَحْر ليزيدَ البحرَ مُلوحة.. تلك هي الْمُلوحة نَفْسُها التي يَتجرعها من تَحَوَّلُوا إلى جُثَث كانَتْ في يومٍ ما تُذَكِّرُ بأجساد أطفال ونساء وشيوخ ورجال.. الملح يَتواطَأُ مع نظام القَتل الجائر ضِدّ رغبة الأبرياء في الخلاص دفعة واحدة..
ترى كم مِن فُوطة تَحتاجها الغُوطة للملمة دمائها ودموعها؟! فوطة الرحمة والرفق بالإنسان الذي أَتْلَفَ معالِمَه الحيوانُ، إنه الحيوان الذي يُقال إنه عاقل، لذلك تَركوه يَسْرَح ويَمْرَح لِيَسُوسَ ويَدُوسَ، يَدوس أجسادا تَئِنّ وقُلوبا تَحِنّ إلى شيء مِنَ الإنسانية التي تَحفظُ ماءَ وجهها.. لَكِنْ لا قَلب لِمَنْ تُنادي!
الإنسان السَّادي يَتلذذ بتعذيب الآخرين، فَمِنْ أينَ للقلب الحزين أن يُسْمِعَ صوتَه هو الذي لا يَسْمَع صوتَه مِن فرط تعذيب الآخَر له؟!
في انتظار الحلقة الأخيرة، مازال مسلسلُ الموت يَسْتَبِدُّ بالبطولة، وأين؟! على شاشة أرض الواقع.. فهل هذا ما يَطْلُبُه الْمُشاهِدون مِنْ صُنَّاع القَرار؟!
نافِذَةُ الرُّوح:
«مَشْهَدُ عِناقِ زَخَّات المطر لِـحَبَّات التراب العَطْشَى يُعَلِّمُكَ دَرْساً في تَقْدِيس الذَّوَبان تحت ضَغْطِ حرارة اللِّقاء».
«اِحْتَرِقْ شَوْقاً يا فَمِي، ولا تَحْلُمْ بأَنْ أَضْرِبَ لكَ مَوْعِداً مع كلمةِ «أُحِبُّكَ».
«الفطام مِن الحُبّ شيء مِن المستحيل في مدينة القَلْب الحَيّ».
«آه منكِ يا عُيون، أَلُومُ نَفْسي لأنني لَمْ أُدَرِّبْكِ على أن تُغْلِقِي نَوافِذَكِ كُلَّمَا مَرَّ مِن هُنَا قُطَّاعُ طُرُقِ القَلْبِ».
«عَصافيرُ الحُبِّ ما بالها تَحْلِفُ ألاَّ تَعودَ إلى شُرفَتِي إلاَّ وقَدْ بَلَّلَها الحنينُ!».
«القَلْبُ اللَّعِينُ أكثر إجادة لِلُغَة البُكاء صَمتاً في انتظار رسالةِ الغفران مِنْ مُعَذِّبِه».
«اُصْمُدِي يا رُوح، فمازال أمامَكِ نَهْرُ جُروح، إنْ لَمْ تَعْبُريهِ يَعْبركِ ضِفَافاً».
بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
01/03/2018
3317