+ A
A -
الثورة تَحرق الثروة، وضفيرةُ الحُبّ يُصَيِّرُها الزمنُ البَشِعُ حبلَ مشنقةٍ يَضَعُ حَدّاً لصُراخِ أمعاء الروح مِن فرط جوعِها وحاجتها الماسَّة إلى رغيف الحُبّ، فالأفواه [ولكل رُوحٍ فَمٌ ] تَكاد تَلتصق مِن وطأة القسوة، لذلك لا تَتْرُكْها تَنتظر إلى أن تَأكلَكَ..
حكاية حزينة يَكتبها القدَرُ في دفتر حياة أنثى، أنثى نصبَها الإحساس مَلِكَةً على عرش الحَرف، فآثَرَتْ أن تَبني صَرْحَ مَجدِها الشعري مِن معايَناتها وتأملاتها في درب الحياة الطويل..
دربُ الحياة ذاك هو الذي أَبَتْ صاحبتُنا إلا أن تَسلكه قبل يَبلغ بها الإحباطُ مبلغَه، ومن ثمة تَصل المسكينةُ إلى اكتشاف ما لا يخفى عن قلب الساقط في حفرة الحظ السيئ: لا شيء سوى عربة حياتها الْمُعَطَّلة، نعم، حياتها كانَتْ مُعَطَّلة مهما صَوَّرَ لها عقلُها أن العربةَ تَسير إلى الأمام..
عند رصيف زمن الشاعرة الروسية مارينا تسفيتايفا MARINA TSVETAEVA نَنصب خيمتَنا لنوثق بالحرف مأساة أميرةِ الشعر الروسي مارينا، مارينا التي لا تقلّ تميزا عن «أنا أخماتوفا» كما عرفناها..
لا يَختلف اثنان في أن مارينا تسفيتايفا شَكَّلَتْ ثروةً فنية تَجَلَّتْ شِعرا في زمن يَكفر بالشِّعر والشعراء برجاله ونسائه، لماذا؟! لأن الثورة الروسية أحرقَتْ أصابع روح الشاعرة..
فكيف للشاعرة أن تكتب بروح مبتورة، روح عَلَّقَتْها الثورةُ على عمود الحزن وقد استَكْثَرَتْ عليها ثروةَ الأصابع تلك التي شَيَّدَتْ مَعْبَدَ الشِّعر في قَبو الجسد قبل أن يَتعالى صُراخ الروح، روح الشاعرة الضائعة بين تمزقات النفس وتشظيات الذات؟!
زميل الشاعرة المبدِع الذي وَدَّعَها، وقد أَهْدَاها حَبْلاً وغَابَ، لم يُفَكِّرْ في أنَّ هديتَه ستَكون الورقةَ الأخيرة الرابحة، لماذا الرابحة؟! لأنها الورقة التي ستَنقل الشاعرةَ إلى عالَم الموت السعيد عندما خططت للانتحار شنقا، صَدِّقْ يا صديقي، شنقا بحبلِه الملفوف بعناية بعد أن ترَكَتْ لِمَنْ تَبَقَّى مِن مُحِبِّيها رَسائل..
رسائل الشاعرة لا تَغفر لها خطيئةَ الموت الرحيم في عينَيْها، لكنها رسائل تَتَصَبَّب عِطرا، إنه عِطر الحُبّ الذي لا يُصبح جُثَّة، لذلك ظَلَّتْ رسائل الشاعرة تَقول لِأَحِبَّتِها إنها أَحَبَّتْهم، أَحَبَّتْهم إلى آخِر نَفَس..
هل نُصَدِّق أن تَكون هذه النهايةُ ضريبةَ الهَمّ الفكري الذي يَحمله المبدع والشاعر؟!
أإلى هذه الدرجة يَغدو التفكيرُ جحيما في عيون من هُم للفَراغ العقلي مُثَمِّنُون؟!
أبهذه الطريقة تَكون مكافأةُ نهاية الخِدمة بالنسبة لعدد هائل مِمَّنْ جَمَعَتْهُم امبراطورية الحَرف التي ظَلَّتْ تَحلف ألا تَتركهم إلا بعد أن تَقودهم إلى حافة جحيم الموت أو تُقْبِرهم في بئر الجنون؟!
لماذا تَهون على الشاعر نفسُه فيُكَرِّمُ الحرفَ تكريما لا حدود له ويَنسى نفسَه، بينما الحرفُ يَهون عليه الشاعرُ والْمُبدِعُ بالْمِثل؟!
حَبل الأسئلة يَظلّ ممدودا، لكنْ مَن كان لِيَمُدّ حبلَ النجاة إلى شاعرتنا مارينا التي جَعَلَها زمنُها الْمُقْفِر تَرقص رقصةَ الموت مِن جراء معاناتها الشديدة مع المرض، مرض الفقر، وقد ساقَتْها ظروف البؤس إلى شَرّ لابدّ منه..
شظف العيش، الجوع، الذُّلّ، الحرمان، القهر، الحنين، التجاهل، الاضطهاد، التواطؤ، الجحود، الرفض، التشرد، الشتات، الخضوع، الصمت قهرا، هذه وتلك عناوين تَكتب سيرة بداية النهاية، وتَحكي عن موسم البؤس..
ليلُ الألَم لا خيط نورٍ يُذَيِّلُه، والشروقُ الكاذب لا شمس تُصَدِّقُ نُبوءتَه، لذلك لم يَجُد زمنُ مارينا بِوَصْلٍ يُعطي لِفَصل حياتها رونقَ الربيع، وكيف؟! كيف يُمكن للابتسامة أن تَزور ثَغرَها في دجنة واقع الزيف؟!
الزيفُ المتفشي في الواقع هذا أكثر ما ثارَ ضده الأدب الروسي، وهذه في حَدّ ذاتها شهادة لم يَغِبْ عن الأدباء الروس أن يُوَثِّقُوها في معظم مُنْجَزِهم الأدبي والإبداعي الذي لم يَسْكُتْ عن حقهم في تَعْرِية الزيف وإقرار لُغَة الكشف..
الأدب الروسي شَكَّلَ دائما مَدْرَسةً تُعَلِّمُ «الروس» قواعدَ رفض الزيف، بل مَن كان لِيَتجاهل في مقدمة الأدباء الأديبَ الروسي ليو تولستوي LEON TOLSTOI وقد وقفَ عند زيف المجتمع بما فيه المؤسسة الدينية التي انتقد ليو رجالَها كاشفا نِفاقَهم واصفا تماديهم..
مارينا تسفيتايفا، شأنها شأن الشاعرات الروسيات، تَشَبَّعَتْ بحِسّ رَفْض غربال المجتمع بمؤسساته الْمُقَلِّمَة لأظافر الحقيقة، فما لا يُصَدِّقُه مُؤْمِنٌ بِدِين الحَقّ هو أن غربالَ الزيف لن يَمنع شمسَ الحقيقة من التسلل..
في حياة مارينا حُكْم قاسٍ كتبَه قَلَم القَدَر بقبضة يَدٍ مِن حديد. إنه قلم الثورة الروسية التي طمسَتْ معالِمَ الحياة المألوفة، ورَتَّبَتْ لفوضى كَلَّفَت الشعراء والأدباء ثمنا غاليا..
مارينا في رسائلها تُبادل مَن تبقى من محيطها الصغير الحُبَّ والمشاعر الدافئة، لكنها في المقابل تَعترف بأنها تَجَرَّعَت اليأسَ على مضض إلى أن خارَتْ قُواها الروحية فأَبَتْ نَفْسُها غير المطمئنة إلا أن تَنسحب مِن لعبة الحياة..
الحياةُ دَفَعَ الروس ثمنها باهظا، وهؤلاء أصدقاء مارينا في حياة صغيرة تُسَمَّى الإبداع تُكَبِّلُهم ألسنةُ الثورة تباعا ما لم تَلتقط أرواحَهم لتُلْقي بها بعيدا عن مدار شمس القلب المعذَّب بحرمانه..
قسوةُ زمن جوزيف ستالين JOSEPH STALINE وما جاوره من أزمنة لا تَختلف عن قسوة القائد المتهور، ومَن يُصَدِّق أن ستالين الذي قَلب الاتحاد السوفياتي رأسا على عقب كان يَكتب الشِّعرَ أو لِنَقُلْ ذلك الفن الرقيق الذي لا يَعرف قُساةُ القلب طريقا إليه؟!
لم تَقِفْ قسوةُ ستالين عند زمنه، وهذه مارينا المسكينة تَسبح مُكْرَهَة في محيط مِن القسوة، فمِن أين لها أن تَسلم مِن مُلوحة بحر التجربة؟!
مارينا الشاعرةُ منذ نعومة أظافر روحِها بهمس بلابل الشِّعر، ذلك الهمس الحالِم بالورد والندى، تَتمرد على آلة القسوة التي لا تَترك قلبا رقيقا إلا وتَقتل فيه الإحساسَ..
هذه مارينا التي تَزفّ إلى قلب العالَم لآلئَ نصوصها الشعرية في وقت مبكِّر وقد التقطَتْها مِن بحر الإحساس بأنفاس الشوق إلى وترٍ تَعزف عليه سوناتا الوجع والحنين..
ترَكض خيول السنين، خلالها تَطير مارينا إلى الماوراء، لاسيما وأن اتهام زوجها سيرغي إيفرون SERGUEI EFRON بالنشاط الاستخباراتي يُضَيِّقُ حدودَ وجودها الإبداعي على أرض الاعتراف، ويُضَيِّقُ بالْمِثل حظوظَها في الانتشار هي التي قَضمَتْ تفاحةَ الشِّعر دون سِنّ العاشرة..
مع استمرار مسلسل المطارَدة التي عانى منها كثيرا إفرون زوج مارينا، تَضطر هي إلى أن تنأى بعيدا عن مناطق التوتر، لكن سرعان ما ستستدرجها الظروفُ إلى الاستسلام، ومن ثمة تَصلبها أشواكُ الواقع على جدار اليأس الذي يَجلد روحَها المرهَفة جَلدا..
لم يكن سهلا على مارينا أن تَتحمل إعدامَ النظام لزوجها إفرون، ولا تَقَبُّل أن يَخضع أحبتُها لتجربة السجن الْمُرَّة ما لم يَعصف بهم الاكتئاب مِن فرط الإبعاد والنسيان، ناهيك عن المنفى الإجباري الذي تَمَّ حَبْسُ أحلامها فيه بعد أن نَبذَها مُثَقَّفُو الدرجة الثالثة..
ضوءُ المساء الشاحب يَحكي عن رحلة الغبن والمحن التي حالَتْ دون أن تَحظى مارينا بموعد مع الصباح، ولْنَنْظُرْ إلى غرائب الصدفة التي جعَلَتْ أولَ مجموعة شعرية لمارينا الطفلة تَحمل اسم «ألبوم المساء».. أليسَتْ حياتُها ألبوما حزينا لمساء لا يَنقضي؟!:
هل يَعود هذا إلى أن عينَي مارينا لم تتذوقا طعمَ شمس الصباح التي ينحني لها صوت العصافير؟!
هل لأن المساء اعتراف بموسم النهايات باتَتْ حياةُ مارينا ذيلا لمساء لا يَنتهي؟!
أم هل يُعزى الأمر إلى استحالَة مَوْسَقَة الحياة مساءً على اعتبار أن عصافير الحُبّ تَنام مساء كما ظَلَّتْ تَنام أحلام مارينا بعيدا عن عقارب ساعة الحقيقة التي رَأَتْ مِن الحكمة ألاَّ تُشيرَ إلى منتصَف نهار الأمَل؟!..
باسترناك PASTERNAK صديق الشاعرة مارينا غريب الأطوار هل كان سيتصور يوما أن الحبلَ الذي أهداها إياه سيُشَكِّل الْمُنْقِذ الذي يُعفيها مِن مصارَعة حُرَّة مع ثيران الوقت؟!
أم أن باسترناك نفسَه ما أهداها هديتَه اللا متوقَّعة إلا لِيُخَفِّفَ من حَربها النفسية المتوحشة بعد أن تَعَذَّرَتْ كُلُّ السُّبُل التي تَقودُها إلى الرغيف الهارِب وإلى حقِّها الطبيعي في هواء الكرامة الذي ألهبَ غيابُه كبرياءَها؟!
حِصان الزمن المجنون يَحلف ألاَّ يَعبر حواجزَ حياة مارينا دون أن تَعبر صدرَها رماحُ الشياطين التي تَمتطيه ولا تلجمه، فتلك الشياطين، شياطين الثورة، تَكفر بملائكة الشِّعر والأدب..
هذه قصيدة أُنوثة بِعُنوان مارينا تسفستايفا، قصيدة حزينة تَحكي عن الزمن الستاليني الغاضِب، الزمن الستاليني الغاصِب للحَقّ في الحياة رغم امتداد الحياة.
بقلم: د. سعاد درير
copy short url   نسخ
26/02/2018
3012