+ A
A -

قُدَّامَكَ تتراءى لك الحياةُ فَطيرة، لكنْ مَهْلاً، فقَبْلَ أن يَسيلَ لها لُعابُكَ دَعْني أُخْبِرك بحقيقة مريرة، لن تُصَدِّقَ يا صديقي أن الحياةَ فطيرة اخْتَمَرَتْ أكثر مِمَّا يَنبغي قبل أن يَصدمَكَ طَعْمُها أنتَ الذي انْتَظَرْتَ أكثر مِمَّا يَنبغي..
أنتَ، أنتَ يا زارع وَرْدِ الأمل، مَنْ يُصَدِّقُ أنكَ أنتَ، أنتَ نَفْسك، ستَكون حاصِدَ شَوك الألم، ومتى؟! وأين؟! ولماذا؟! يَكفيك أن تَهيمَ شوقاً إلى ما يُشفي غليل السؤال..
يَحدث كُلُّ هذا في ساعة تَذوب لها كَمَداً عقارب ساعةِ الزمن، تحت شمس غبراء أَضْرَبَتْ عن النور وتمادى الصراع بِعَبِيدِها على عَبَّادِها حَدّ أن يَقتلَ فيها الواحدُ الآخَرَ. اختلفت الدوافع والأسباب، لكن النتيجة واحدة..
قَدَر ليس مِن العَدل والحِكمة إلا أن نُقَبِّلَ أقدامَه طارقين بابَ الرحمة الذي نَعْلَم عِلمَ اليقين أنه لن يُغلَق في وجوهنا، فمَهْمَا تَعَكَّرَت النفوس والأمزجة والهواء والمياه ليس لنا إلا أن نَقصدَ بابَ الله..
أَقْدَارُنا ورقةُ امتحان لا تَقْبَل أن نَرُدَّها، وكذلك بالْمِثل قَدَرُ طالبِ الحياة الذي أَبَت الحياة أن تُنْصِفَه، لكنه المسكين يَستميت طلبا لِمَن يَرفع عن عُنُقِه شفرةَ السِّكِّين..:
«سلةُ ليمون
تحت شعاع الشمس المسنون
والوَلَدُ يُنادي بالصوت المحزون
عِشرون بقِرش
بالقِرش الواحد عشرون» (أحمد عبدالمعطي حجازي).
الجوع واحد، والقسوة واحدة، وكذلك الظلام الذي يَعقد قرانَه على الأحلام، فيُنجب مِن الكوابيس ما يُقبِرُ العقلَ والمنطقَ والقلبَ والروحَ والوجدان.. ولْيَحْتَرِقْ هذا الذي يَسْكنكَ ويُسَمَّى الإنسان..
بلاد العجائب لا تَختلف عن زمن العجائب، وفيهما يَتسلل إلى دائرة الضوء مارِدٌ نُمْرُود سرعان ما يَكبر ويَكبُر لِيَأكلَ كُلَّ مَن هُم على شاكلة الْمُعَذَّبين، إنه الجوع، الجوع الذي لا يَرحَم طفلاً ولا امرأة..
الجوع في كل مكان وزمان يَحظى بالبطولة المطلقة، لِذا لا تُجَرِّبْ أن تُمازِحَه، فهُو وحدَه يَمزَح ولا يَقبَل مَن يَمزح، الجوع وحده يَمزح بِوَقاحة وشَماتة وحَقارة ونَذالة..
لَن تَسْأَلَ نَفْسَك إن كان الجوع جريمةً في حَقّ الإنسانية أم إن كانَ عقوبةً تَنالها أنتَ بكل القسوة الكائنة والممكِنة، ولا تُمَنِّ نَفْسَكَ بصفح أو غفران.. فقط اصْمتْ وانْحَنِ أكثر فأكثر يا إنسان..
بَينَ يَدَيْه وفي حضرتِه سيَسلبكَ الجوعُ إرادتَكَ وسيُرَوِّضُكَ على الخضوع إن لم تُدَرِّبْ نَفْسَك على الخضوع أنتَ أنتَ مِن تلقاء نَفْسِكَ..
في غابة الجوع التي يَأكلُ فيها القويُّ الضعيفَ ستُداني الموتَ ولا تَموت، ستَمضي حافياً عارياً مثل طرزان صغير عليه أن يبتكرَ أسلوبَه وطريقتَه لِيَبحثَ له عن حيز صغير يَسمح له باقتسام الغابة مع عُمَّار الغابة مِن الوحوش..
لا تَقْلَقْ يا طرزان زمنِكَ، فمع الوقت سيَنبت لك ذيل يُقوِّيك على مقاومة عوامل التعرية والاستبداد، ذيل الرغبة الشقية في التمرد وإعلان العصيان والكفر بالمستحيل..
أيعقل أن تُؤَكد حضورَك دون أن تَدفَعَ الْمُقابِلَ الثمين؟!
ليس أمامَكَ إلا أن تَصرخ صرخةَ ليمون حزين، كأنكَ تَقول له هَمْساً: فَلْأَبْكِ على زمني وابْكِ على زمنِكَ يا لَيْمون..:
«سَلَّةُ ليمون غادرَتِ القريةَ في الفجر
كانَتْ حتى هذا الوقت الملعون
خضراء مُنْداةً بالطَّلّ
سابحةً في أمواج الظِّلّ
كانت في غَفْوَتِها الخضراء عروس الطير
أَوَّاه!
مَن رَوَّعَها؟» (أحمد عبدالمعطي حجازي).
صاحِب «مدينة بلا قلب» يَتحدث عن قالَب مَكاني أُفْرِغَ مِن مُحْتَوى العاطفة، فلم يَبْقَ فيه إلا صَدى العاصِفة، عاصفة القَسوة، القَسوة التي تَكنس القلبَ مِن بقايا آثار الحُبّ..
المدينة تُقْفِر ولا تَزورها غيومُ العاطفة، القلبُ يُعلِن إفلاسَه، والحُبُّ يَنكسِرُ مَذْلُولاً فيَجرُّ ساقَيْه ذارفاً دموعَ الوجَع الكاوي نادباً حَظّه في صحراء القلب الخاوي..
الفتى الأسمر صاحب الليمون يَجمع حَبَّاتِه، ويَعود إلى قرية البؤس، وأحمد عبدالمعطي حجازي يَجمع سطورَه الشعرية الْمُطِلَّة من جَنَبَات سَطْح سَلَّة الليمون ويُغادِر..:
«لا أحد يَشُمُّكَ يا ليمون
والشمس تُجَفِّفُ طَلَّكَ يا ليمون
والوَلَدُ الأسمر يَجْري لا يَلْحق بالسيارات» (أحمد عبدالمعطي حجازي).
أحمد عبدالمعطي حجازي يَحمِل هو الآخَر سَلَّةَ سُطوره الْمُتَصَبِّبَة حرقةً على كِيان يُسَمَّى الإنسان، لِيُخَبِّئَها لِحُزْن آخَر وشتاء آخَر ومَوْسِم آخَر لجَنْي رماد الموت عِوض جَنْي الليمون الْمُعادِل للحياة..
في مدينة النسيان لا مَكان للإنسان، والمجدُ فيها لِمَن يَبيعُ الوهمَ والموتَ لا لِمَن يَزرع الأملَ في الحياة، ولْتَذْهَبْ إلى الجحيم أنتَ يا مَن يَشقى، ففي مدينة الْمُشاة النائمين لن تُسْمَعُ أصوات الكادحين..:
«عِشرون بقِرش
بالقِرش الواحد عِشرون!
سَلَّة ليمون
تحت شعاع الشمس المسنون
وَقَعَتْ فيها عينيَّ
فَتَذَكَّرْتُ القرية» (أحمد عبدالمعطي حجازي).
«أشجار الأسمنت»، «كائنات مملكة الليل»، «مدينة بلا قلب»، هذه وغيرها عناوين تُعلِن الاعترافَ بحالة السخط التي عَمَّرَتْ مع الشاعر أحمد عبدالمعطي، فعَيْناه الساخِطَتان تَلتَقِطان ما لا يُبْصِرُه إنسان..
أحمد عبدالمعطي ليس بآخَر سِوى ذلِكَ الْمُسافِر الذي يَمتطي ناقةَ الشِّعر لِيَعْبُرَ صحراءَ العَطَش والموت، صحراء الحياة، صحراء الإنسان الضائع، تلك هي الصحراء التي لا شيء يَغيبُ عنها سِوى الإحساس بالحياة..
الفتى الأسمر بائع الليمون وسِواه، هؤلاء المعذَّبون لن يَخرجوا عن نَماذِج تَحمل قصديةَ التعبير عن ذاتِها وتفاصيل حياتها، لماذا؟! لِتَمْرير رسائل يَعْرِفُ الشاعِر أحمد عبدالمعطي الدوافعَ التي جَعَلَتْه يُعيدُ من خلالها تَرتيبَ أسئلة الوجود والحياة..
أما الْمَرامي والغايات، فهِيَ بِدَورها لا تَغيبُ عن أُفُق كتابات أحمد عبدالمعطي الشعرية الهادفة إلى مُعانَقَة الغارقين في بَحر الغُربة والضياع، بحر المدينة التي تَأكل أبناءَها لِتَتَغَوَّلَ أكثر فأكثر..
«أوَّاه!
مَن رَوَّعَها؟
أيّ يَدٍ جاعتْ قطفَتْها هذا الفجر
حَمَلَتْها في غبش الإصباح
لشوارع مختنقات مزدحمات
أقدام لا تتوقف، سيارات
تَمشي بحريق البنزين» (أحمد عبدالمعطي حجازي).
المدينة الكبيرة يَذوبُ فيها الإنسان، المدينة الكبيرة بُركان لا يَسمح لك بأن تَلوذَ بِسُور، كأنَّ كُلَّ الشوارِع يَتَعَذَّر فيها الْمُرور، فكيف لكَ أن تَسْلم مِن بَطش ألسنة النيران والمدينة الكبيرة بُركان؟!
مَلَكَة أحمد عبدالمعطي الشعرية جَعَلَتْه يُعاين إحساس الضَّياع والخواء عند مَن عزَّ عليهم البَقاء..
الغريبُ أكثر مَن يُحِسّ بالغريب، والشاعر أحمد عبدالْمُعْطِي يُطلق العنان لإحساسه الرقيق لِيُجَسِّدَ حالةً أكثر غرابة، إنها غُربةُ الليمون المسكين الذي لا يَجد في المدينة الكبيرة إلاَّ مَن يَزهد فيه، مَع أن الليمونَ وحده قادر على أن يَبعث فيكَ الإحساس بالحياة..
لحظة عابِرة تُصَوِّرُ معركةَ الإنسان مع رَحى الحياة وغُربة كل ما يُشَجِّع على الحياة.. إنها الحياةُ مع وَقْف التنفيذ تلك التي تَجعل قاربَ أيامِكَ الصعبة يَتهادى على أمواج الأحزان وأنت تُهاجِرُ باحثاً عن موطِئ قَدَم للإنسان..
هِيَ هجرةٌ مَفروضة، لكنها مَرفوضة عندما يَكون لقلب الإنسانية ضَمير حَيٌّ يُحاسِبُه على التفريط والتقصير..
مَشْهَدٌ يومي يُكَرِّرُ نَفْسَه طَلَباً لِمَا يُغَطِّي ثَمَنَ القُوت.. لكنَّ الذُّلَّ يُقْسِمُ أنْ يَفْضَحَ تجاوزات يَد الإنسانية ويُسْقِط عن مَسْتُورِها ورقةَ التوت..
أحمد عبدالمعطي تراه بعين الشاعر يَجوب حَيَّ المشاعِر ليَنقلَ لنا بإحساسه الثائِر ما يُشْقِي قلبَكَ الحائر قُبَالَةَ كَمِّ البُؤس وواقِع الخِذلان الذي تَنفر منه نَفْسُ الإنسان..
كُوبُ الشاي البارِد الْمُسَمَّى الحياة، الحياة تحت الصفر، لا تَجِدُ النَّفْسُ الأَمَّارَةُ بالرَّفْض إِلاَّ أنْ تَدفعَه لِيَنْدَلِقَ وتَنْدَلِقَ معه الأحلامُ التي كنتَ في يوم من الأيام تُمَنِّي نَفْسَكَ ألاَّ تُغادِرَها شمسُ السلام..
لكنها وطأةُ اليَوْمِيّ الرتيب ووَقْع الأقدار الْمُريب.. أمامَ كُلِّ هذا لا تَجِدُ أنتَ إلا أن تَستسلمَ لِحَفَّار قَبْرِكَ أنتَ الذي تَدْري أن الخوفَ الحقيقي ليس مِن حفرة تَرحمك تحتَ الأرض ويَكبر فيها أَمَلُكَ، إنما الخوف مِن حفرة كبيرة تَبتلعكَ فوق الأرض ويَكبر فيها أَلَمُكَ..
القَبْرُ حياتُك، حياتك التي لنْ تُكَذِّبَ أنتَ أنكَ تَموت فيها، وغيرك يَسرق الحَقَّ، حَقّكَ في الحياة المثالية التي يَجدر أن تَحضر فيها المساواةُ والعدالةُ الاجتماعية وما إلى ذلك من ضَرورات تتجاوز الحقوقَ..
عن واقع الظُّلم يَكتب أحمد عبدالمعطي بأصابع مشتعلة إحساساً وهو يُصَوِّرُ لحظةً قد يُصَوِّرُ لكَ عقلُكَ أنها عابرة، لكنها في حقيقة الأمر بِقَدْر ما هِيَ متكررة تراها تَسكن الوِجْدانَ والذاكرة..
الذاكرةُ الفردية جُزء مِن الذاكرة الجماعية، وما هِيَ في الأصل إلا ذاكرة المجتمعات والشعوب والأُمَم العائِمة في مُحيطات التَّبَعِية والتخلف والجهل والحَيْف والرَّكْض خَلْفَ الزَّيْف..
الثروةُ الحقيقية هي الإنسان، فلِماذا نَقبل على نُفوسنا أن يُهان؟!
أَيُهان ويُسْتَعْبَدُ وكرامتُه تُداس هذا الذي قد كَرَّمَهُ رَبُّ الناس؟!
حَرْبُ التهميش والتجاهُل مازالَتْ قائمة، في انتظار أن يَتَحَرَّرَ الإنسانُ مِن السجن الكبير الذي نَصبَه لِنَفْسِه الإنسانُ بِاسْم المدنِية في مَدينةٍ بِلا قَلْب..
بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
03/02/2018
3433