+ A
A -
وأنتَ تَبحث عن مكنسة تَمحو بها آثار جريمةِ الزمن المارّ من هنا أو هناك ستُفَكِّر في شارب سلفادور، سلفادور دالي الذي وقفنا عنده في محطة سابقة، وقُلنا من بين ما قلناه إن ما يُمَثِّلُه شارِباه لا يَختلف عن القارب الذي أَبْحَرَ بسلفادور داعياً إياه إلى حفل ساهر تحت سماء الجنون..
لكننا تَفادياً للإطالة لم نَقُلْ إن سلفادور عُرِفَ بحماقات كثيرة أَسَّسَتْ صَرْحَ مجده الفني، وفي مقدمة تلك الحماقات ما رَاجَ بين أهل الفن من أنه كان يَميل في أكثر من مُناسَبة ومقام إلى استخدام شاربه محل الريشة التي لم تَعُدْ تُرضيه..
فالريشة في عرف سلفادور قد أكل عليها الدهرُ وشرب، ولذلك لم تَعُد الريشة تَليق دائما بأفق انتظاره وتطلعاته هو الضارب بجذور رؤيته الفنية في قاع بحر الجنون..
وهذا ما يُبرِّر فلسفةَ سلفادور التشكيلية، لاسيما وأنه قد رأى في قُدُرات شاربه العجيبة ما لم يَتَوَسَّمْه في ريشته، ريشته تلك التي عاثَتْ فوضى في مدينة الفن..
أَهُوَ حَوْضُ ألوانه الذي لم يَعُدْ يَشتهي الريشةَ؟!
أَمْ هي ريشتُه التي فَقَدَتْ جاذبيتَها وبريقَها، فما عادَتْ أنوثتُها تَرقى إلى مستوى ثِقَتِه؟!
وبما أننا نَقف عند تجربة فريدة من نوعها تلك التي فَجَّرَ فيها سلفادور إبداعَه ورسَم بها حدودَ موهبته الخارقة عندما جَرَّبَ الكتابة بالألوان متوسلا القلمَ الاستثنائي الذي لا يَخرج عن الشارب، لِنُحَدِّدْ من أين استقى سلفادور فكرةَ الشارب العجيب..
لم يَكن سلفادور ليَستمد مقومات شخصية شاربِه الخارج عن التصنيف لو لم يَكن الْمُلْهِم بالنسبة له هو نيتشه، فريدريك نيتشه FRIEDRICH NIETZSCHE..
فأول سؤال تَسأله باهتمام وأنت تَعبر شوارع الإلهام، هو:
كيف تَمَّ لسلفادور هذا الإلهام؟!
لِنَقُل إنه نيتشه، نيتشه الْمُلْهِم، ولولا تَأثُّر سلفادور بشارب نيتشه حدّ الإعجاب به والافتتان والتقديس له لما فكر يوماً في أن يُربي شاربَه على تلك الشاكلة.
فهل يَكون من باب التقليد الأعمى أن يُقلِّد صاحبُنا الغريبُ سلفادور الغريبَ الآخَرَ نيتشه؟!
أم أن فكرة التقليد في حد ذاتها تَختزن إعجابا دفينا من طرف المجنون سلفادور بتجربة الشيخ نيتشه؟!
أكثر من سؤال يَلتقطه ذِهنُكَ كما ترى، وليس القصد التنقيب في حقيبة الإجابات الجاهزة عن واحدة لا تَقِفُ نَفْسُكَ أمامَها عاجزة، لكن الْمُراد هو التساؤل باجتهاد عن السر القابع في جرَّة الأسرار الْمُلقاة في بحر الظلمات بعيداً عن قَبضة يَدِ المعرفة، ذلك السِّرّ الذي دفع سلفادور إلى التمسك بتلابيب نيتشه..
وهنا يُطِلّ مِن شُرفة التساؤلات تساؤل يَجعلكَ تُخَمِّنُ مباشرة في عبقرية نيتشه التي جعلته هو الشهير بكتابه «هكذا تكلم زرادشت» يَتجسم في صورة سُلَّم، سُلَّم ما كان مِن سلفادور إلا أن يَرتقيه لِيَقطفَ شيئا من عِنَب دالية الحكمة التي تُظَلِّلُها غيومُ الفلسفة.
بيت القصيد نيتشه. وعبقرية نيتشه لا تَحتاج أنتَ إلى دليل يُرشدك إلى عتبتها. لهذا من واجبنا أن نَفتح البابَ للفرصة عندما تَطرق بابَنا الفرصةُ مُحَمَّلَةً بشيء مِن حصاد حياة فريدريك نيتشه..
الفيلسوف والشاعر الألماني فريدريك نيتشه عُرِفَ بعمق كتاباته، خصوصا منها تلك التي فَصَّلَت الأخلاق على مقاسات ما كان يَصبو إليه. أكثر من هذا فإن نيتشه كتب الشعر، وحاول مجتهدا أن يدلي بدلوه في مجال التأليف الموسيقي، هو المولع بالموسيقى الكلاسيكية..
لكننا لم نسمع عن اجتهاده الموسيقي ما سمعناه عن نقده وفلسفته هو الذي كان يُؤْمِن كل الإيمان باستحالة وجود مفكر عميق بوسعه أن يَقبل بانضمامه إلى أحزاب تُوَجّهه من خلال ما تُقيده به من أفكار لا يمكن لمفكر عميق أن يَخضع لها..
هل يريد نيتشه أن يقول إن الأحزاب خالية من مفكر يَحترم توجهاته الفكرية ويُخْلِص لها بعيدا عن السلطة التي يَفرضها النظام الحزبي؟!
هل يريد نيتشه أن يقول إن المجتمعات القائمة خالية من فكر عميق؟!
هل يريد نيتشه منا أن نَعترف بسقوط المثقف في ظل مجتمعات تحكمها أحزاب تُجَنِّدُ الأفراد وفق ما تُمليه من برمجة؟!
الإنسان الخارق، موت الإله، فلسفة الخنازير، هذه وسِواها مفاهيم تَعترض رحلتك في عالم نيتشه وتَقف بك عند رؤية فلسفية تُعلن غرابة أطوار صاحبها، وربما هذا ما جعل كتاباته في أكثر من مقام لا تَحظى بالترويج الذي مَنَّى به نيتشه نفسَه ولم يَتحقق له إلا بعد موته.
فهل يكون السبب قصوره الفكري الذي جعل مبيعات كتبه يومئذ تَتقلص وتَتراجع إلى الحَدّ الذي صَدَم نيتشه؟!
هل هي اضطراباته النفسية واختلالاته العصبية تلك هي ما جَعَلته يرتاد المصحات مع تزايد التشكيك في صحته العقلية؟!
هل هو اكتئاب ما بعد الكتابة ذاك الذي جعل نيتشه يَتأثر نتيجة رفض معارضي سياسته الفكرية له لاسيما بعد أن رفض الاعتراف بعقيدة المسيحية، وهو ما قلل من حظوظَ حصوله على مُتَنَفَّس يسعفه في الخروج من ضائقته المادية؟!
نيتشه لم يكن حُزْنُه وليد اليوم ولا إحباطُه النفسي، فهو قد تَجَرَّع مرارةَ الفقدان في عمر الزهور عندما توفي والدُه. ففي كنف مَن نشأ؟! نشأ المسكين في خلية كُلُّ الْمُجَنَّدات للخدمة فيها نساء..
بين أُمِّه فرانشيسكا وأخته إليزابيث اللتين تَفَرَّغَتَا للعناية به بعد أن ألمّ به المرضُ، ورافَقَتَا مسيرتَه النضالية في دروب الفلسفة، كانت هناك امرأة أخرى فشل نيتشه في إرضائها أو فشلَتْ هي بالأحرى في إرضائه، إنها لو سالومي..
لكن هل كانت لو الحبيبة التي لم يَضرب القدر لنيتشه موعدا ليُصَرِّحَ لها بحُبِّه؟!
أم أن تَفَرُّغَه لكتاباته بعد مغادرته لكرسي التدريس في الجامعة جعل مِن المستحيل أن يَجِدَ الوقتَ هو لقلبِ امرأة؟!
أم أنه اجتهاد خلية النساء لإخراج لو من دائرة اهتمام نيتشه لأسباب غائبة عن يقيننا؟!
لهذا أو لذاك، فإن النتيجة واحدة: إنه الحرمان، الحرمان الذي أطاح بإمبراطورية نيتشه الفكرية ما أن تَرَبَّصَ به جيشُ العِلل والأسقام التي هَزَمَتْ نيتشه وصَفَّقَتْ لانكساره..
انكسارُ نيتشه فَرَضَ عليه في وقت سابق التنقل من مكان إلى مكان في أرض الله الواسعة بحثا عن هواء يُجَدِّدُ دماءَ الحياة النفسية في حُجُرات جسده، لكن تزامنا مع هذا الانكسار كان هناك انتصار كَتَبَه نيتشه بحروف من نور.
مسار غريب عَرَفَه نيتشه، وقَدَر أَغْرَب سَاقَه إلى حافة الجنون. الجنون سَيِّد مطاع، في كل مرة يُواعد أحدهم ويُذَيِّلُ الوعدَ بلقاء تراه يُصَيِّرُ عقلَ الواحد منهم قطعةَ جُبن يتلذذ بلعقها.
أليس من غير الحكمة أن تَنتهي حياةُ العظماء على سرير العته والجنون؟!
أم هو دَرْبُ المعرفة الشاقّ الذي يَسلبكَ كل أسلحة الدفاع عن نفسك في معرض دفاعك عن فكرة أو قضية تُؤْمِن أنتَ بها إلى درجة تُنسيكَ أن تُؤَمِّنَ على حياتك العقلية؟!
نيتشه الذي تتنافس الأجيال على إعادة قراءة كتبه وعبورها تأملا ونقدا مَن كان يُصدِّق أنه سينتهي على هذه الشاكلة؟!
أصدقا كان هذا هو نفسه نيتشه بَطَلُ العبقرية التي كان يُخفيها تحت الشارب الْمُذَكِّر بمنظر مكنسة، أم هي حيلة أخرى تَعَمَّدَ صاحبُها أن تَنْطَلِيَ علينا هروبا من أن تَنكشف آثارُ المرض الذي قِيلَ إن نيتشه قد ابْتُلِيَ به؟!
ويَبقى للحقيقة فَمٌ أخرس.

بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
20/01/2018
3222