+ A
A -
د. إبراهيم عرفات
كاتب مصري
منذ وقت ليس بقصير والحديث لا ينقطع عن مرحلة ما بعد النفط. وهو حديث صحيح، لكنه كثيراً ما يقود برغم صحته إلى الوقوع في تصور زائف. فما أن يسمع البعض عبارة «ما بعد النفط»، خاصةً من العامة، إلا ويفهمونها على أنها نضوب كامل للزيت الأعجوبي الذي حرك عجلة التاريخ. يفهمون «ما بعد النفط» على أنها نهاية حزينة بإغلاق أسواقه وسقوط منصاته ووقف مضخاته. وحديث النهايات مقلق بطبيعته، خاصةً لو كان الرزق يعتمد على مورد، يتردد مراراً أنه سينتهي.
لا...النفط لن ينتهي بتلك الطريقة الدراماتيكية المفجعة. فمرحلة «ما بعد النفط» ليست نهاية وجودية للذهب الأسود وإنما تحول شامل للاقتصاد الذي عاش على خيراته وتأسيس لاقتصاد جديد مختلف. النفط أنشأ اقتصاداً ريعياً عود الناس على بذل أقل مجهود طالما أن الطبيعة تقوم نيابة عنهم بالعمل لتخرج لهم من جوف الأرض خيرات وحظوظاً وكنوزاً. ولن تواجه دول الخليج العربي تحديات التحول إلى مرحلة «ما بعد النفط» وحدها. فكل الدول العربية تأثرت باقتصاد وثقافة الريع. باتت كلها تقريباً بشكل أو بآخر دولاً ريعية. يكفي أن الدخل القومي لمعظمها، إن لم يكن لكلها، يعتمد في جزء منه على تحويلات أبنائها العاملين في الخليج. وبالتالي فهي دول ريعية إما بالتبعية أو بالأصالة لو كانت تعتمد على مورد أو موقع طبيعي يعطيها دخلاً سخياً. الريع ليس مشكلة الخليج فقط وإنما مشكلة العالم كله. فمن شرق الأرض إلى غربها تعيش ملايين الأسر على ريع النفط الخليجي.
وقد قيل عن الريع ما في الخمر. اتهم بأنه وفر المال لخدمة الاستبداد ومول الجماعات الدينية المتشددة واستعمل في مشروعات بذخية لا لزوم لها وتسبب في تفشي الفساد وشجع على التكاسل الوظيفي وعدم الاهتمام بالإنتاج طالما أن المال يستطيع أن يشترى كل شيء. والمشكلة ليست في الريع وإنما في طريقة إدارة الريع. فالثراء ليس سبباً أوتوماتيكياً للاسترخاء والإسراف والفساد. هناك دول مثل النرويج لم يؤثر ريع النفط الذي تحصّله على الوظيفة الإنتاجية للوطن أو المسؤوليات الضريبية للمواطن. إن الريع محايد مثلما ظهرت بفضله معالم تتسم بالروعة وقعت بسببه أحداث مليئة بالترويع. فهو الذي بنى مدناً جاذبة كأبوظبي والدوحة وهو الذي حطم مدناً أخرى كالرمادي وبنغازي.
هو الذي مول جامعات على طراز عالمي وهو أيضاً الذي غذى جماعات من طراز همجي.
ولا يقتصر التحدي في مرحلة ما بعد النفط على توليد أموال بديلة للريع وإنما يمتد إلى تطوير آلية تضمن أن تكون إدارة تلك الأموال مختلفة والأهم تكوين نظرة مغايرة لا تعتبر الأموال البديلة ريعاً جديداً. وهنا تأتي أهمية الخطط والرؤى المستقبلية التي أعلنتها بعض الدول العربية. فما بعد النفط قادم، سينتقل إليه العرب، بادروا أم تأخروا. اقتصاد ما بعد الريع حقيقة يجب الاستعداد لها. ستكون هناك أموال جديدة المأمول من الآن ألا تكون مثل الأموال القديمة. ألا تعتبر باختصار ريعاً جديداً.
ولن يضمن ذلك إلا أن تكثف الرؤى المستقبلية المطروحة اهتمامها بتغيير السياسة كما تهتم بتغيير الاقتصاد. أن تفتح الحيز العام لتدمج القاعدة الشعبية بصدق في اتخاذ القرار. لماذا؟ لأن المال الجديد لن يأتي من الأرض وإنما من عرق جبين المواطن. ومن يدفع عجلة الاقتصاد لا بد أن يتمتع بحقه في تحريك عجلة السياسة. ولهذا من الخطورة أن تعامل الأموال الجديدة في مرحلة ما بعد النفط معاملة الأموال القديمة وكأنها ريع يصرف ويوجه كما وجهت ريوع النفط.
رؤى المستقبل في حاجة إلى أن تراعي ذلك حتى يكون ما بعد الريع روعة بلا ترويع. فهل الدول العربية على استعداد لحياة سياسية مختلفة بعد الريع؟ حياة سيرفض المواطن فيها أن تعامله الدولة بمنطق العصا والجزرة لتمنح كما اعتادت من تحب وتمنع كما تعودت عمن لا تحب؟ إن الانتقال إلى مرحلة ما بعد الريع ليس فقط عملاً اقتصادياً وإنما في جوهره هو تحول سياسي يتطلب إرادات جديدة ورؤى شجاعة وتضحيات كبيرة.
بقلم : د. إبراهيم عرفات
copy short url   نسخ
23/05/2016
1564