+ A
A -
الشوق محرقة تُرْدِي أنفاسَك، وتَترك روحَك مُعَلَّقة على عمود الزمن.. وبِقَدْر ما تَنأى بك مسافاتُ الوقت، تَضرب أنتَ جذورَك أكثر فأكثر في أبعد نقطة من ماضيكَ عُمْقا كشجرة صنوبر خرجَتْ عن طَوْع دِينِ الغابة..
لن أُكْثِرَ عليكَ يا صديقي، فالصُّوَر التي تُجَسِّدُ الإحساسَ تَنساب اللحظةَ كموج البرد الذي يركل بأقدامه القاسية شاطئَ الأماكن كَكُرَةَ شقية يَكونها قلبُك الذي يُرهِقُ الزمنَ التفكيرُ في عدد الضربات التي يَتنبأ بها أهدافا في مرمى شباكه..
في انتظارنا أنا وأنتَ (بِحُكْم اللحظة العربية المحاصَرة) سَفَرٌ نُوسْتَالْجِي يَنتهي بنا في زمن ملوك الطوائف مع نهاية أسطورة الفردوس، لا تُسَمِّه الفردوسَ الضائع، إنما قُل إنه الفردوس الذي ضَيَّعُوه كما ضَيَّعُوا ما تَلاه..
نَمضي بلا بَوصلة، نَمضي وقلوبنا يَعتصرها الحنين إلى ما لم نُفْلِحْ في الحفاظ عليه، نَمضي بلا زاد، زاد ماء الحُبّ، ونمضي بلا زوادة، زوادة الإيمان بالقضية ونحن أصحاب القضية..
هذا سفر مأساوي على سفينةِ صحراء تُسَمَّى الرثاء، وهل ثمة مِن سفينة تُجِيدُ رُكوبَ موج التجربة غير الشِّعر؟!
موسيقى أجواء حزينة تُخيِّم على لحظة الرحيل التي تَجَمَّدَ عندها الزمنُ ونامَتْ عند رَصيفِه أحلامُنا.. استيقَظَ الزمنُ وانْطَفَأَ الحُلم، وما استيقَظْنا نَحنُ صُنَّاع الحُلم..
الحُزن يُخَيِّم على ساحة الشعر المصبوب في قالَب رِثاء أبَّنَ به صاحبُه أبو البقاء الرندي الأندلُسَ بعد سقوطها، وأيّ سقوط هذا؟! إنه السقوط الْمُدَوِّي مِن أعلى بُرج الحضارة..
لِنَتَحَدَّثْ اليومَ يا صديقي عن الكمال الذي يُصَوِّرُ لك عقلُك أن يَتحقق على الأرض، بينما تُعَجِّل الحقيقةُ بإنكاره:
«لِكُلِّ شيء إذا ما تمَّ نقصان
فلا يُغَرُّ بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دُوَل
مَن سَرَّه زمنٌ ساءَتْه أزمان
وهذه الدار لا تُبْقِي على أَحَد
ولا يَدوم على حالٍ لها شانُ» (أبو البقاء الرندي).
هكذا يَبدأ قصيدتَهُ صاحبُنا الذي تَلمس في شعره بُخارا متصاعدا مِن فنجان قهوة يُسمى رندة، وما أدراك ما كانت رندة وأخواتها في وقتٍ مضى..
بَكَيْنا الوقتَ، وما بَكانا الوقتُ، وتَغيب شموسنا تباعا كأن سماءَ عروبتِنا هَوَتْ عندما هَوَتْ شمسُ الحُبّ، الحُبّ الذي ليس من الكثير علينا أن نَنْوِيَ أن نَصنَع به المعجزات..
نحن قوم تَكْفينا النيةُ، أما أن نَصْنَعَ بالحُبّ المعجزات حقيقةً، فهذا كثير علينا، لماذا؟! لأننا قبل أن نُفَكِّر في «كيف نَصنع المعجزاتِ بالحُبّ؟!»، نَسينا أن نُجيبَ عن السؤال الأهَمّ: «كيف نُحِبّ؟!»..
البُخارُ المتصاعِد مِن فنجان رندة هو إحساسُ الشاعر أبي البقاء الرندي. ابن رندة هذا كيف لا يَفعلها فَيُعَلِّمنا الإحساس، يُعَلِّمنا الحُبّ هو الذي يَقول في سياق آخَر وقد أوشك قلبُه على الانصهار على صفيح الإحساس كمُكَعَّب زبدة فَقَدَ توازُنَه بِفِعل فاعل:
«يا سالِبَ القلب مني عندما رمقا
لم يُبْقِ حُبُّكَ لي صبرا ولا رَمَقا
لا تَسْأَلِ اليوم عما كابدَتْ كبدي
ليتَ الفراق وليت الحُبَّ ما خُلِقا» (أبو البقاء الرندي).
قلبُ الشاعر المرهَف فراشة زَيَّنَ لها شيطانُها الرقصَ حول نار الحُبّ المقدَّسة، فأكَلَتْها النارُ مثلما تَأكل الحطبَ.. كقلب الشاعر ها هي القلوب في كل مكان تَأكلها نار الحُبّ، ونار الحرب بالْمِثل، وما أكثرها حروب الزمن العربي المتفاوتة من حيث الحرارة والبرودة..
بين الحُب والرِّثاء مسافَةُ شِعر.. فَلْنَغْرِفْ شيئا من عَسل الشعر الذي بقدر ما يَكوي يُداوي، إنه الشعر الذي لا يختلف عن نبيذ مُعَتَّق في خابية، فكُلَّما تَقَدَّم به الزمنُ ازدَدْتَ تَثمينا له:
«يا غافلا وله في الدهر موعظة
إن كنتَ في سِنةٍ فالدهر يَقظان
وماشيا مرحا يُلهيه موطنه
أبعد حمص تَغرّ المرءَ أوطان؟
تلك المصيبة أنسَتْ ما تقدّمَها
وما لها مع طول الدهر نسيان» (أبو البقاء الرندي).
عصافير الحنين يُحمِّلها الشاعرُ شوقَه، وها هي تُحَلِّقُ في بساتين أولئك الراحلين بأيام قرطبة وبلنسية وما جاورهما، أرواحهم غابَتْ وما غابَتْ، وتاريخهم مَرَّ وما مَرَّ..
قلوب الراحلين حالُها هنالك من حال الشاهدة، وذكراهم تَنصب خيمتها في قلوبنا لنُعانِقَ التوقَ إلى ماضينا، ماضيهم، ماضي حضارة أندلسية تناحر زعماؤها وقد قرروا تقسيم قطعة الأرض التي تحملهم إلى دويلات..
«ماذا التقاطع في الإسلام بينكم
وأنتم يا عباد الله إخوان؟» (أبو البقاء الرندي).
إنها الحضارة الأندلسية العريقة التي أطاحَ بها نزق آخِر الْمُلوك اللاهثين خلف كُرَة السُّلطة المتدحرِجة، وذاك آخِرهم فَرَّ هاربا ظانّا أنه قد نَجا بنفسه، فإذا بكلماتِ أمِّه مُعَلِّقَةً على مَشهَد الخراب النازل على أندلسهم كاللعنة سَوْطٌ يَجلده ويقول له: لا مَفَرّ..
«أتى على الكل أمر لا مردّ له
حتى قضوا فكأنَّ القومَ ما كانوا
وصار ما كان من مُلكٍ ومِن مَلِك
كما حكى عن خيال الطيف وسنان» (أبو البقاء الرندي).
الفَقْدُ مُرّ، الفَقد موجِع، الفَقد حُقنة تَنغرز فيكَ دفعةً واحدة، لكنها تُميتكَ موتا بطيئا، فليتَ كان لك قلبان لتترك واحدا منهما يَبكي بحرية وتَقوى على العيش بالآخَر.. الفَقد نار ما لكَ اختيار لتَقبلها أو تُقاومَها على الأقلّ..
«فاسأل (بلنسية) ما شأن (مرسية)
وأين (شاطبة) أم أين (جيان)
وأين (قرطبة) دار العلوم فكم
من عالِم قد سما فيها له شان
وأين (حمص) وما تحويه من نزه
ونهرها العذب فيّاض وملآن
قواعد كُنَّ أركان البلاد فما
عسى البقاء إذا لم تَبق أركان» (أبو البقاء الرندي).
قلبُكَ حطبُ نارِ الفَقد، قلبُكَ كلما تَفحَّمَ عادَتْ به سكراتُ الموت البطيء إلى ماضيكَ، كيف الأيامُ كانتْ، كيف سَقْفُ البيت الآمِن يَؤول إلى السقوط، كيف الأسوار بعيدا عن الحُبّ تَنهار، كيف الأحلام تَخبو، وكيف قدماكَ تَقودانكَ إلى حَتفكَ كالصغير الذي لِتَوِّه يَحبو..
«يا من لذلَّة قوم بعد عِزّهم
أحال حالَهم جور وطغيان
بالأمس كانوا مُلوكا في منازلهم
واليوم هم في بلاد الكفر عبدان» (أبو البقاء الرندي).
الأخطاء التاريخية تتكرَّر، وذيلُ الخيبة الطويل والقاسي يَجلدُنا دون استثناء.. لا وقت للبكاء!
«فجائع الدهر أنواع منوعة
وللزمان مَسَرَّات وأحزان
وللحوادث سلوان يُسهلها
وما لما حلَّ بالإسلام سلوان» (أبو البقاء الرندي).
لا وقت للبكاء بعد أن تَركنا الحُبَّ يَجمع حقيبتَه ويَرحل، لَمْ نُكلِّف نُفوسَنا أن نُودِّعَه، رحلَ الحُبُّ، مات في طريقه إلى المدينة الفاضلة، سَمِعْنا الخبرَ ونِمْنَا، وما شَيَّعْناه بقصيدة رِثاء..
أفليس نَايُ رندة يُجيد التبصرَ واستنباطَ المعنى عندما قال:
«لمثل هذا يَذوب القلب من كمد
إن كان في القلب إسلام وإيمان» (لأبو البقاء الرندي)؟!
الحياةُ يَوم مُتْعِب، يَوم شاقّ وطويل، لكنه لا محالة يَنقضي، ونَنقضي معه..
ما أَرْخَصَكِ يا سفينة القَلب الغارقة في بَحر الحُبّ الْمَيِّت!
بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
16/12/2017
4698