+ A
A -
لنبدأ بالوقائع. قبل ايام أعلن الرئيس الاميركي دونالد ترامب اعتراف الولايات المتحدة بمدينة القدس عاصمة لدولة إسرائيل، ونقل السفارة الاميركية اليها تكريسا لهذا الاعتراف مع وقف التنفيذ أو تأجيله ستة أشهر. ما أثار تحديا للفلسطينيين ولـ«مشاعر العرب والمسلمين» وموجة من ردود الفعل الغاضبة والمستنكرة...
فما هي الحقيقة؟ عام 1993 وقع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات ورئيس الحكومة الإسرائيلية اسحق رابين ووزير خارجيته آنذاك شمعون بيريز برعاية الرئيس الاميركي السابق بيل كلينتون في باحة البيت الأبيض على الاتفاق التاريخي الذي عرف بـ«اتفاق أوسلو». وقد عانى هذا الاتفاق من ثغرات عديدة، بعضها جوهري ما زال ماثلا أمامنا إلى اليوم، تم تأجيله بانتظار ظروف أفضل لم تتحقق. غير انه مكّن قادة الثورة الفلسطينية من وضع أرجلهم في الداخل لمتابعة استكمال مسيرة التحرير والتحرر وبناء الدولة، والتخلص من نير وصاية وتسلط الأنظمة العربية. وأهم تلك العقد التي بقيت عالقة هي مسألة وضع مدينة القدس.
وبعد سنتين فقط من التوقيع (نوفمبر 1995) على ذلك الاتفاق قام متطرفون يهود باغتيال رابين، سبقه بشهر واحد تصويت الكونغرس الاميركي بأغلبية كبيرة على الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، أي قبل اثنتين وعشرين سنة من الآن بالتمام. وترك للإدارة الاميركية أمر تقرير متى يتم عمليا نقل السفارة، ومازال هذا التفويض مستمرا بفعل التمديد الدوري كل ستة أشهر مع وقف التنفيذ.
وعام 2000 رحل كلينتون عن البيت الابيض من دون ان يتمكن من ايجاد حل لهذه المعضلة، ولمسألة أخرى لا تقل أهمية هي «حق العودة» لفلسطينيي الشتات التي شكلت العقبة الرئيسة التي أدت إلى فشل آخر قمة فلسطينية- إسرائيلية بين عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود باراك في كمب ديفيد.
بعدها دخل جورج بوش الابن البيت الابيض وبقيت الأمور على حالها. لم تكن مسألة القدس ونقل السفارة على جدول أعمال إدارة الحزب الجمهوري الذي يُظهر في بعض الحالات تمايزا في الموقف عن الحزب الديمقراطي تجاه دعم إسرائيل. حتى ان جورج بوش الأب اتخذ قرارا غير مسبوق في 1991 بوقف ضمانات القروض الاميركية (كانت قيمتها نحو عشرة مليار دولار) عن إسرائيل لاجبارها على وقف الاستيطان والمشاركة في مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط. وخلال الحملة الرئاسية عام 2004 قام المرشح باراك اوباما بتعديل في برنامج الحزب الديمقراطي لجهة الاعتراف بالقدس عاصمة إسرائيل. الا أنه وبعد انتخابه رئيسا عام 2008 لم ينفذ ما وعد به واستمر التمديد لقرار عدم نقل السفارة إلى القدس لمدة ستة أشهر متتالية خلال فترة ولايتيه الرئاسيتين لغاية 2016.
وخلال الحملة الرئاسية عام 2016 فرض ترامب نفسه على الحزب الجمهوري، وفعل الأمر نفسه متبنيا قرار الاعتراف بالقدس عاصمة إسرائيل خلافا لموقف الجمهوريين التقليدي...
ترامب اذن لم يأت بجديد، وان ما فعله هو عبارة عن مسرحية كرر خلالها ما هو متخذ سابقا من مواقف للادارات الاميركية المتعاقبة. فقرار الاعتراف بالقدس عاصمة إسرائيل عمره اكثر من عقدين ووقف تنفيذ نقل السفارة كذلك. وهو أيضا كرر أمس قرار وقف تنفيذ نقل السفارة لستة أشهر معللا ذلك بـ«أسباب لوجيستية». الا ان الاخراج كان فولكلوريا وأكثر إثارة، ما أرضى إسرائيل بطبيعة الحال ونجح في استفزاز بعض العرب الذين سارعوا إلى موجات من الغضب والاستنكار. المهم ألا يكون قد مارس عملية ابتزاز ايضا لانتزاع مقابل يبقى على الأشهر القادمة ان تثبته؟! القدس فلسطينية وعربية، وهي مهد الأديان السماوية الثلاث. ويجب ان تبقى كذلك، مدينة مفتوحة للتعايش والسلام والحوار، ومنارة للحضارات منذ فجر التاريخ. علما بأن قرار الأمم المتحدة 181 يلحظ وضع خاص للأراضي المقدسة ويضمن حرية الأديان والعبادة والمعتقد. ولن يغير من جوهر القدس وأهميتها وخصوصيتها، لا العربدة الإسرائيلية وغول الاستيطان، ولا البلطجة الاميركية. ولن يحميها الصراخ وبيانات الشجب والاستنكار العربي، ولا تحصنها المزايدات اللفظية والخطابات القومجية الموسمية.
سعد كيوان بقلم:
copy short url   نسخ
12/12/2017
2706