+ A
A -
نعم كما هو العنوان ليس مجرد تلاعب في المفردات، فالذات البشرية ليست لحما وعصبا، ولو كانت كذلك لكنا جميعا نسخا مكررة مصنوعة من مادة واحدة، لا تميز بيننا سوى صورنا الظاهرة، وأشكالنا المتباينة، ولذا فليس بغريب ان يضحي كثيرون بكيانهم الجسدي من أجل تحقيق خلودهم الذاتي، المتمثل ببقاء ما يؤمنون به من قيم، وما يعتنقونه من مبادئ، فغاية الجسد ان يستحيل إلى تراب، وأما الذوات الشريفة النبيلة فباقية على مرّ الأعصار والدهور، تروي مآثرها كتب التاريخ، ويتناقل أخبارها الرواة، وفي خضم حياة مادية تتسارع أحداثها، وتتلاحق تطوراتها، ينحسر دور القيم والمثل في حياة كثيرين إلى حيز ضيق جدا، حين يجد أكثر الناس ان سلطان المادة قد أصبح هو السيد المطاع، الذي لا يغلب ولا يقهر، وحين تنتكس الموازين وتختل المقاييس فإن الذات هي الخاسر الأكبر في هذا كله، إذ تصبح قيمة المرء مرتهنة بما يحمل في جيبه من دراهم، لا بما يختزن في صدره من مبادئ.
ومن البدهي والحال كذلك، أن يقل الموفون بعهود القيم وشرائطها الصعبة، والمؤدون أمانات المبادئ إلى أهلها، لاسيما إن ترتب على ذلك تبعات وأثقال، لذا عليك ان تتأمل فيما حولك لتكتشف نتائج هذا الاختلال، وبالرغم من ذلك فإن الحياة تزخر بنماذج مشرقة من الأفذاذ، المخلصين في أداء ما يناط بهم من مهمات وأعمال، فيُسخرون لتحقيق ذلك كل ما يملكونه من قدرات وطاقات، لكن المزعج في الأمر أن هؤلاء المميزين يكافأون بالإهمال والنسيان، بينما يحظى من هم أقل منهم بذلا وعطاء بالتقدير والمكافأة والترقية، فمن يجرؤ على القول ان الكفاءة والجد هما القنطرة الموصلة إلى جنة النجاح!! فأي وضع بات هو الأمثل للكثيرين هذا الوضع المنكوس المعكوس.
ولا ريب أن مثل هذا التعامل المحبط المخيب لآمال الجادين المجتهدين له أثر بالغ السوء في كسر العزائم وحل عقد الهمم وقتل روح النشاط والعمل، لكنك مع هذا تجد جل هؤلاء المجتهدين مستمرين في عطائهم بلا كلل ولا ملل فتتساءل: تُرى ما الذي يحملهم على ذلك مع ما يرونه من غبن وتجاهل متعمد لدورهم الايجابي في البناء والبذل!!
قد تتعدد الأسباب حتى أن البعض قد يحلل الأمر بأنه ضعف وقلة حيلة ورضا بالأمر، ويراه البعض الآخر انسجاما ذاتيا - نعم! إنه الانسجام مع الذات المتمثلة في ما يحمله المرء من قيم ومبادئ وهو الهدف الرئيس الذي يسعى إلى تحقيقه كل عامل يحرص على ان يكون محسنا متقنا لعمله، وحسبه بذلك ان يكون قد وفى بمتطلبات التناغم السليم بين الواقع المعاش وعالم المُثل، وبتحقيق مثل هذا التوازن يستشعر المرء معنى السعادة، ويحقق التوافق النفسي المأمول، وليس الأمر مقتصرا على الجانب المادي العملي، بل هو مطلوب بالدرجة نفسها في الجوانب الروحية، المتمثلة في سلوكيات التعامل مع الآخرين، فالصديق الذي يؤدي لصديقه حقوق الصحبة كاملة غير منقوصة لن يخالطه أدنى شعور بتأنيب ضمير، فيما لو لم تؤد إليه حقوقه على وجهها، فيكفيه أداؤه لما عليه وزيادة، فلا تثريب عليه حينئذ إن أضاع الآخرون حقوقه ولم يبادلوه وفاء بوفاء، ولعلك تدرك بذلك قيمة الانسجام الذاتي في استقامة الحياة الإنسانية، فلو غابت هذه القيمة عن النفوس، فإن قيم الاخلاص والصدق والإيثار والتضحية ستغيب معها حين يتعامل الناس فيما بينهم من منظور المعاملة مثلا بمثل، لذلك قد تبدو الرحله نحو عمق الذات التي لا تحمل تشوهاً دنيويا ملاذاً أخيراً ان امتلأت بنا الطرق بتضيّيق الخناق، فليتذكر البعض ان تضيّيقهم على عباد الله قد يكون لهم ضيقاً في النفس يوماً ما، ودامت الأحاديث بود.

بقلم : ابتسام الحبيل
copy short url   نسخ
21/05/2016
2446