+ A
A -
القصة التالية حقيقية وليست من نسج الخيال. وقعت لرجل يبلغ اليوم الخامسة والتسعين من عمره. اسمه «وديع فلسطين» ولد سنة 1923 في محافظة سوهاج بصعيد مصر. وقد كان لمدة زادت على ستين عاماً من أعمدة الصحافة المرموقين. تدرب على يده صحفيون لامعون في مصر وعديد من الدول العربية. ألف وترجم أربعين كتاباً، وكان يعتبر خلال الفترة ما بين 1945 إلى 1952 علماً بارزاً في جريدتي المقتطف والمقطم.
وقبل أيام روي صحفي آخر مرموق هو الأستاذ «لويس جريس»، زوج الفنانة الراحلة «ثناء جميل» وأحد تلامذة السيد «وديع»، ما جرى للأخير. فقد فوجئ بوقف معاشه الحكومي لأن من تعدى التسعين عليه أن يثبت أنه ما يزال على قيد الحياة.
ولم تكن هناك طريقة للإثبات إلا أن يذهب بنفسه إلى إدارة المعاشات حاملاً بطاقته الشخصية ليبرهن على أنه ما يزال حيا يرزق. تحمل الرجل المشقة وذهب إلى إدارة المعاشات رفقة واحدة من معارفه. صعدت مرافقته إلى الطابق الثالث لتبلغ الموظف المسؤول بأن السيد «وديع» موجود بالطابق الأرضي ولا يقوى على الصعود طالبة منه مقابلته بالطابق الأرضي. لكن الموظف أصر على أن يصعد الرجل الهرم بنفسه. فكان أن تحامل ونفذ التعليمات. ولما وقف بين يدي الموظف ألفاه مندهشاً إذ كيف تضم كشوف المعاشات التي يشرف عليها رجلاً بهذه السن. انتهت المقابلة بصرف السيد «وديع» مع وعد بإرسال شيك المعاش.
القصة عجيبة. لكنها باليقين ليست الوحيدة التي يمكن أن تستوقفنا في خضم تراجع منسوب الإنسانية في حياتنا العربية اليومية. فقد تفشى توحش وتعنت وصلف في الإدارات الحكومية ومختلف أوجه الحياة الاقتصادية والثقافية والسياسية. نعم الحياة العربية بلا استثناء. فمن يقرأ عينة من بريد القراء ومقالات الرأي في بعض الصحف العربية سيجد العجب وستصدمه روايات شبيهة. يا سادة يا كرام لقد انسلت إلى قلوبنا غلظة لعينة لابد أن نكرهها لكي نستعيد إنسانيتنا المفقودة. غلظة تحملنا على أن نخجل من أنفسنا.
ما كل هذه القسوة التي نراها ونسمع عنها مع أننا نفخر بأن العرب رجال شهامة ورحمة وكرم ومروءة؟. وهذا صحيح. فهناك رحماء كثيرون. لكن تبقى الغلظة مع ذلك ملمحاً لا يُنكر، ويبقى تراجع الإنسانية مظهراً جلياً يقتحم حياتنا بروايات مؤلمة تتكرر يومياً. من غلظة موظفين إلى ساسة إلى أغنياء إلى توحش جماعات تقتل وتحتقر باسم الدين والطائفة والمذهب والوطن. الأمر بات يحتاج إلى إعادة نظر. فمع أننا جزء من الأسرة الإنسانية HUMANITY إلا أننا نبتعد كثيراً عن النزعة الانسانية HUMANISM. بتنا نحتاج في ظل التوحش الإداري والطائفي والسياسي والثقافي والديني السائد إلى أن نتأكد أولاً من أننا نتمتع بشمائل الانسانية حتى وإن كنا على يقين بأننا نملك مواصفات الإنسان.
مطلوب توقيع اختبارات لكشف الانسانية على نطاق واسع يشمل كثيرا من الموظفين العموميين الذين يتعاملون عن قرب مع المواطنين. على الساسة وقادة الرأي ونجوم الإعلام ورجال المال والأعمال. على المدرسين ومهندسي البلديات. على مفتشي التموين والمنشآت. على الأطباء والإداريين. لم تعد تكفي مسوغات التعيين التقليدية. نحتاج أن نتأكد من أن من يتقلد موقعاً عاماً يفهم أنه من أجل احترام آدمية الإنسان.
واختبارات كشف الإنسانية ليست ترفاً. فلو كانت توقع لما كنا سمعنا مثلاً عن اختبارات مشينة مثل اختبارات كشف العذرية وأخرى بائسة لكشف الانتماءات الفكرية وقياس التقوى الدينية. وقد تحتاج اختبارات كشف الانسانية إلى قدر من الإشراف الحكومي حينما يكون التأكد من السلامة النفسية والعقلية والأدبية للموظفين العموميين لازماً. لكنها تبقى بالمقام الأول اختبارات ذاتية على كل فرد أن يطبقها على نفسه. أن يسأل لماذا يجرح الآخرين؟ هل أن مفرداته الوظيفية مهذبة ولائقة؟ لماذا يتعسف مع البعض في الاشتراطات بينما يتساهل في تطبيقها مع أقاربه ومعارفه؟ كيف يوفق بين ما توجبه الإنسانية من ذوق وما يتضمنه القانون من صرامة؟ فالقانون الذي يطالب مثلاً من تعدى التسعين أن يثبت أنه ما يزال على قيد الحياة قد لا يكون خاطئاً. لكن الخطأ في تطبيقه بلا ذوق.
ولو أجريت اختبارات كشف الانسانية فستكشف عن أهوال. سنجد عنفاً وتوحشاً بل وربما إرهاباً يزيد ربما بكثير عن كل العنف والتوحش والإرهاب الذي نسمع عنه من داعش وشبيهاتها. فمثل هذه الجماعات رسبت في اختبارات اثبات الانسانية. لكنها ليست إلا جزءًا من مجتمعات سقطت بدورها في ذات الاختبارات. الانسانية ليست أن نقول أننا بشر وإنما أن نتصرف وفق مثل عليا طلبت الأديان والفلسفات والقوانين من البشر الالتزام بها.

بقلم : د. إبراهيم عرفات
copy short url   نسخ
20/11/2017
2963