+ A
A -
عجبي ممن يبدؤون نهارهم بالتكشيرة والزعيق.. كنت أدرّس في الجامعة، حيث طلّابٌ من جنسياتٍ مختلفة.. وكنت أراه في الصباح المشرق الجميل، حيث الطبيعة تنافس المخلوقات في التزيُّن، وكنت أراه منتحياً جانباً عند المدخل الذي أقصده.. ومن تكرار ذلك لفت انتباهي: هو شرقيُّ السمات، أسمر الجبهة كالخمرة في النور المذابِ على رأي شاعرنا «الملّاح التائه»، عفيُّ البدن، بادي الثراء وحُسن الحال، ولكنه مقطّب الجبين، منغلقٌ على نفسه، اقتربت منه:
- ما حكايتك؟ لا أراك مع رفيقٍ أو زميلة..
-أنا لا أزال حديث عهدٍ في هذا البلد، ولا أزال أتعثّر في تعلّم اللغة التي أذاكرها جيداً في المعهد.
- وهل هذا يضعك في هذا القدر من الانكماش، والانطواءِ على النفس؟ فكّ التكشيرة يا ولدي، وتعرّف على أيٍّ من زملائك أو زميلاتك.
- بابا حذّرني من فعل ذلك.
-ألم يرسلك بابا لعالمٍ جديدٍ لتكتسب جديداً لمستقبلٍ هو ليس مستقبل «بابا»؟
المهم أخذت بيد الشاب، وعرّفته على بعضٍ ممّن أثق بأخلاقهم.. وفي نهاية الفصل الجامعي، كان صاحبنا من أبرز لاعبي كرة القدم الأميركية في الجامعة، ويحظى بتشجيعٍ ومحبةٍ كبيريْن في أوساط زملائه الذين يعشقون هذه اللعبة، وغيرهم، كونه أحد أبطالها..
بعد حينٍ التقيته، أقبل مبتسماً:
-تعرف يا أستاذ، لو لم تحدّثني ذلك الصباح، لكنت قد عدت ثانيةً إلى بلدي.
هذه حكاية صغيرة، عن نموذجٍ من نماذج أبنائنا في الغربة.. هم يجيئون إلى مجتمعاتٍ غير مجتمعاتهم، ويعايشون مجايلين لهم مختلفي الطباع والطبائع.. ومع تسليمي بما فعلته الطفرة العلمية في وسائط التواصل، وكسر حواجز الغربة، وتبسيط المعرفة وجلائها عن طبائع الشعوب، إلا أنه لا تظل في كوامن الشخصية رواسب من الإرث التربويّ والاجتماعيّ تطفو على السطح، حينما يتم الاحتكاك، والتلاقح مع حضاراتٍ مختلفةٍ.. وحتى ينجح أبناؤنا في الغربة، فإنه يتوجّب علينا تبصيرهم بهذه الحقائق دون تخويفهم منها،لأن الإنسان -في المحصّلة الأخيرة- هو الآدميّ الذي مكّنتْه أرضيّته في بنائه، فعاش وتعايش مع هذا البناء.
*من أغاني الصبا:
أنا لن أعودَ بجسميَ الفاني،
ولكني أعود بحزمة الماضي وأحلامِ اللقاءِ
في تلكم الأحلامِ، كنتُ أراكِ ملءَ العينِ
في أحلى بهاءِ.

بقلم : حسن شكري فلفل
copy short url   نسخ
10/11/2017
2841