+ A
A -
هي أنثى تَتسلل إلينا هاربة من جحيم الحياة العادية، أنثى كسائر الإناث كانت، لكنها سرعان ما تَنطلق في ظِلّ قانون الكتابة، فإذا بها تَكاد تتعثر في ردائها الرومانسي، قبل أن تُفَضِّلَ الانزواء داخل معطف البوليسي وقبعته السوداء التي من ورائها ترى ما لا تراه عين..
مِن قلب كانازاوا تَصرخ ناتسو كيرينو Natsuo Kirino صرخةَ الحياة، فتَمتد دافقة كالنهر لِتَصمد لاحقا في وجه القوة كالصخرة التي لا تُقاوَم، الصخرة التي عندها تَنحني القوة متوارية..
ناتسو كيرينو ليست بأخرى سوى المرأة الحديدية بقلمها الذي أَبْدَعَ وأَجادَ وأَبْهَرَ في ما يتعلَّق بالمطارَدات البوليسية، تلك المطارَدات التي ليس بينها وبين خيال الكاتبة حِجاب..
عالَم الجريمة الغامض تَستدرجك إليه ناتسو كيرينو.. هل لِتُلقي بظلاله على واقعك الذي لا يَ خلو من غموض بالمثل؟! أم لِتَقول لك بِلُغَة مَنطِقها إن ما تَتخبط فيه أنتَ من كوابيس ليس نهايةَ العالَم لأن ما خفي أعظم، وما تَحجبه أسوار الواقع قد لا يختلف كثيرا عما تُضمره أسوار الكتابة؟!
حُورية بَحْر الرومانسية ناتسو كيرينو التي يُتَوِّجُها شتاء العاطفة عروسَ الثلج وتُبَلِّلُها زخَّات صيفِ المشاعر هي نفسها بطلة المغامرة الروائية البوليسية التي تَخوض التجربةَ بنجاح..
وإذا كان التاريخ الأميركي الانجليزي يَذْكُر بتقديرٍ أجاتا كريستي Agatha Christie سيدة الرواية البوليسية «مولودة لأَبٍ أميركي وأُمّ انجليزية»، فإن التاريخ الياباني لن يُسقِطَ من حقيبة الزمن ناتسو كيرينو صانعةَ المتخيل البوليسي روائيا، فلا يَختلف اثنان في أن ناتسو تحتل المرتبة رقم «1» في ترتيب صُنَّاع الأدب البوليسي هنالك..
والسؤال الذي يَحتاج إلى أكثر من وَقْفَةٍ وطريقةِ صياغةٍ هنا هو:
ما سِرّ إقبال المرأة على كتابة الرواية البوليسية التي لا تَخلو من سَطوة وعُنف والكُلُّ يَعلم عِلْمَ اليَقين ما يُمَثِّلُه كيان مُرْهَف الإحساس يُسَمَّى المرأة؟!
وإليك يا صديقي أَذْيال السؤال:
بماذا نُفَسِّر رغبةَ المرأة في الكتابة بِلُغَة الرصاص هي الرقيقة التي عَوَّدَتْنا على امتصاص العُنف؟!
هل هي قِلَّة حيلة المرأة الضحية التي كانَتْ تُواجه في المجتمعات الغربية بَطشَ الرَّجُل وما وازاه مِن قُوة قبل أن تُدْرِكَ أن لها أجنحة تَسمح لها بالطيران وقبل أن تَعي بأن عقلها وقلمها فُوهتا بندقية من الحكمة أن تَنال بهما من جبروت الرَّجُل القاتل لإحساسها بالرِّقَّة والأنوثة؟!
هل الكتابة البوليسية اختيار يَردّ الاعتبار لواقع المرأة المهزوز نفسيا بسبب عدم قدرتها على حفظ ماء وجه إثبات وجودها بالقوة؟!
ألا تَرى أنه الاختيار الذي يَتفق مع الإكراهات التي تَعترض طريقَ تأكيد المرأة لقدراتها وفَرْض وجودها في الوقت الذي نَتصور فيه أن الرَّجُلَ لم يَكن لِيُصَدِّقَ قُدرتَها على التحدي؟!
هل تُشَكِّل مواجهةُ القوة النَّصَّ الغائب في حياة المرأة على أرض الواقع حتى تُعَزِّزَ «المرأة» مَساعيها إلى الثورة على القُوة الحقيقية باستعمال القُوة على الورق؟!..
رَصيد جاهِز خَّوَّلَ لناتسو كيرينو أن تَحصدَ الجوائز نظير عشرات الروايات التي ضَمنَتْ للكاتبة مكانا في جَنَّة الاعتراف، إنها الجنة التي قاد إليها جَحيم يسمى الفِرار والمطارَدة بكل إصرار..
«أوت/Out» لِنُسَمِّها فاكهةَ الشتاء، شتاء الكتابة الذي أمطر ناتسو تتويجا وتقديرا، أو لِتَكُنْ (أوت) بَريدَ الحَصاد..
مِن حُسن حَظّ رواية «أوت» أنها فتحَتْ لناتسو بوابةَ الانتشار لَمَّا حصلَتْ على تَذكرة من صُنَّاع القرار= القرار الأدبي الفني «لِيَتِمَّ تحويل الرواية إلى شريط سينمائي جَعَلَ شمسَ الشهرة تُشرِق على المرأة اليابانية..».
المرأة اليابانية ناتسو كيرينو بطلةُ كتابةِ الحياة تُسَلِّطُ الضوءَ على المرأة بطلة حياةِ الكتابة، وهو ما يَظهر بجلاء في شخصيات رواية «أوت». ولذلك ليس بغريب أن تَكون المرأةُ بطلةَ الْمَرْوي على لسان قَلَم ناتسو، فللمرأة دائما في حياتها الورقية قِصَّة أخرى ومسار آخَر، لكنها قصة لا تنتهي، كما لا يَنتهي المسار بالمثل..
ناتسو كيرينو اللاعبة بالنار يُسْعِفُها الاختيار، فكُلَّما أَمْطَرَتْ بندقيتُها رصاصا أَمْطَرَتْها بالنجاح الأقدار، فلا مَجال لِهَدْر التَّالي من الليالي ولا مَجال لانتظار المزيد من الوقت لِتَحلبَ ناتسو الخيالَ وتَقطف بَلحَ العُزلة الْمُشْتَهاة وتَمتَصّ شَهْدَ الكتابة/ الحياة..
غير أن الغريبَ في حالة ناتسو، واسمها الحقيقي ماريكو هاشيوكا، هو أنها لم تَتسلل إلى كهف الكتابة إلا في زمن متأخر مقارنة مع معظم عشاق الأدب الروائي الذين يَربطون معه علاقة غرامية تتجاوز الحُبَّ بِفُصول مُنْذُ الصِّبَا..
مَنْ قال إن الزواجَ والإنجابَ قد يَشغلان المرأةَ أو يُعَطِّلان مسيرتَها الإبداعية؟!
الحقيقة أن ناتسو هذه تستحق أن نَضْرب بها الْمَثَلَ في النجاح، مع أنها زوجة وأُمّ، وقد لا تُصَدِّقُ يا صديقي أن ناتسو لم تُدْمِن الكتابةَ إلا بعد الزواج، كما أنها لم تَصْنَعْ أزهى مَرايا أدبها الروائي إلا بعد ميلاد ابنتها..
فهل هو الفراغ الذي يُحاصرُ حياةَ المرأة ما جعل ناتسو تَتفنن في الكتابة وتُقَدِّم الروائع؟!
وإذا سَلَّمْنا بأن ناتسو لم تَستفد كثيرا من الحياة تحت سقف الزواج وأنها وَجدَت فائضَ الوقت الكافي لِيَجْعَلَها تَتَسَلَّى بالكتابة أو تَشْغَل نفسَها بالكتابة «أو سِواها»، فهل نَقوم بإسقاط مسؤولية كبيرة بحجم التربية عن حسابات ناتسو لِنَجِدَها تَتفرغ لِقَلمها كُلَّ التَّفَرُّغ؟!
المؤكد أن ما نَتَّفِق عليه هو أن الكتابةَ طقس وعبادة، وبالتالي فالمرأة ستُجِيدُ فيها دون أن تُقَصِّرَ في التزاماتها الأخرى، لماذا؟! لأن المرأةَ دقيقة في عملها، بل نَجِدُها تَهْتَمّ بِأَدَقّ التفاصيل، ولا تَقبل، لا تَقبل بِأَيّ شكل مِن الأشكال أن يُقال عنها إنها لا تُنشد الكمال..
دَرس آخَر تُلَقِّنُه الأنثى الْمُسَمَّاة ناتسو كيرينو للرجال: إنه الإتقان، الإتقان كُلّ ما يُطْلَب، ولا شيء يَمنع المرأةَ عن صناعة الجَودة بِغَضّ النظر عن أَيّ شاغل آخَر يَشغلها ويَلْتَهِم قِطعة أخرى مُهِمَّة مِن كَعكة الزمن.
بقلم : د.سعاد درير
copy short url   نسخ
04/11/2017
3436