+ A
A -
البؤس له لون واحد كبِركة آسِنة، والشَّقاء له طعم واحد ككسرة الخبز اليابسة، والخِذلان له فَم وعينان، عينان تقولان أكثر مما يتسع لذلك بوح إنسان..
ماذا عن إنسان قَهرَتْه الظروفُ في صحراء قاحلة تُسمى الحرمان، فإذا بالقهر يَعقد القران على الشَّجَن ليتمدد أكثر فأكثر ليل الْمِحَن..؟!
ما الليل سِوى الوجه الآخَر لعُملة العُمر، العُمر الذي يَحكمه قانون الظروف.. والظروف (هذه) جَلاَّد لا يَرحَم العِباد، وأكثر من ذلك يُعلِّمهم الانقياد.. الانقياد، لا أكثر ولا أقلّ!
الهروب ميثاق مُؤَجَّل، والحياةُ لحظات هاربة باحثة لسيقانها عن مجال للانعتاق، والطريقُ إلى الغَدِ مُعَبَّد لِمُرور الأحزان التي تَسبِق بِمَسافات خطوةَ الإنسان..
ما أوحشك يا إنسان في مُسْتَنْقَع السُّقوط المسمى دُنياك!
عن هذه الدنيا التي تتأبط حياةً صغيرة تَموت فيها رغبةُ الإنسان في عناق الحُلم تُحَدِّثُنا قصةُ حياة كَتَبَها الروائي الأميركي جون ستاينبك JOHN STEINBECK..
لِمَن لا يَعرف جون ستاينبك فهو صاحب رواية «عناقيد الغضب (LES RAISINS DE LA COLERE)» التي لا تختلف أجواؤها كثيرا عن الأجواء التي نشأ فيها الكاتب الروائي، فهي الأخرى تَرسم حدودَ دالية العِنَب الْمُرّ الذي كان في انتظار صاحبِنا ستاينبك وهو يَلتَمِس طريقَه إلى باب الحياة..
حياة صغيرة عاشَها ستاينبك في ظِلّ أُسْرَة بسيطة، أُسْرَة لا يَسمَح لها دخلها بالاستمتاع باللحظات، لذلك حاربَت من أجل تَحسين أوضاعها وتَفانَتْ في الركض وهي تُطارد الرغيفَ الهارِب..
ولا غرابة أن تَكون معايَنات ستاينبك لِمَشاهِد الفارِّين مِن سِياط الفَقر السببَ الذي يَعود إليه الفَضْل في أن يَجعل ستاينبك يتفنن باحترافية في وصف واقع «عناقيد الغضب» الرواية التي كتبها وعرفَتْ طريقَها إلى الشهرة والانتشار في زمن الضباب والإعصار..
أيّ دنيا هذه التي كانت تَقِفُ بِستاينبك على ساق واحدة في وقت متقدم من عُمر الكاتب وتَرسم في عينيه خريطةَ الحزن الماثِل في مُشاهَداته اليومية قريبا (مِن) أو بعيدا (عن) مسقط رأسه كاليفورنيا؟!
وأيّ خريطة حُزنٍ هذه التي يَجهل السابحون في النعيم كيف يَخُطُّها إنسان يُلَوِّن لوحَة حياة الإنسان بأصابع محترِقة؟!
وأيّ أصابع هذه التي احترقت قبل أن يَفتَح كاتبنا عينيه على الحياة التي كانت تُجَرِّعُه كأسَ الخيبات؟!
وأيّ خيبات هذه الخيبات المتلاحقة التي كانت تتحول مع الوقت إلى ذَيْل يَجلد ستاينبك (وأبناءَ زمنِه) قبل أن يَفتَح له الْمَجدُ أبوابَه وأحضانَه؟!
واهِم يا صديقي مَن يتصور أن الكُتّاب العَرَب وحدهم يُكابدون، بل يَكاد الواحدُ منهم غالبا يَبيع نفسَه إكراما لربّات الإلهام أو شياطينه (الإلهام)..
ولْنَنْظُر (غير بعيد) إلى صاحبنا ستاينبك هذا، ألا نرى جَليا أنه يَختزل كُتَّابَ الغَرْب هؤلاء الذين لا يَختلف اثنان في أن منهم من كان يَذوب كشمعة؟!
وأكثر من هذا لِنُعايِنْ كيف أن العذاب كان يَمْتَحِقُهُم وُقوفا عند باب لم يَعرفوا إلا بمشقة إن كان سَيَسمح لهم بالمرور إلى طريق سَيَّار يَقُود إلى مُدُن الانتشار، بعد أن ينكسروا بين مطرقة الظروف وسندان الرغبة كُلَّ الانكسار..
«عناقيد الغضب» عنوان الرواية التي سَجَّلَ بها ستاينبك هدفا في مرمى الانتصار لصوت الضعفاء، لكنها شَكَّلَتْ بالنسبة له خاتَم الْحَظّ الذي جَعَلَه يُؤَكِّد حضورَه بِقُوة ككاتب روائي كان يَعرف جيدا مِن أينَ يَبدأ وإلى أين كان يُريد أن يَصِلَ..
عن الأزمة الاقتصادية التي ضربَتْ أميركا في سنوات الثلاثين مِن القرن العشرين يَكتب لنا واحد من الناس المهمَّشين الذين مَرَّغَهم القحطُ الاقتصادي في وحل السنين، وأيّ سنين؟! إنها السنوات العجاف التي جعلَتْ أميركا تنحني مِن فَرْط البُؤس الذي كان يَنطق به واقع حالها..
ومَن يَكون هذا المهمَّش الذي يُحيطنا عِلما بكل تلك التفاصيل سِوى ستاينبك الشاهِد على التاريخ، ستاينبك الذي يَجعلك تَتَصَفَّحُ كِتَابَ البُؤس على امتداد صفحاتِ عناقيد غضبه هو وباقي الْمعدمين ماديا ومعنويا؟!
مَن يُصَدِّقُ الآن أن أميركا بحضارتها الضاربة في التقدم والثراء قَد لَقِيَ أبناؤها كُلَّ ذلك العَناء؟!
ومَن سَيُصَدِّقُ أن قوةَ الإيمان بالفكر في ظِلّ قانون التحدي مع الإرادة الْجَبَّارة والثقة بالقُدُرات سَتَبْلغ بأميركا مَبْلَغَ أَنْ تَقودَ العالَمَ المتطلِّع خَلْفَها إلى المضي قدما احْتِذَاءً بها واقْتِداءً؟!
إنها الإرادة والصمود اللذان يَصنعهما الرِّجال من أبنائها الأبطال، إنهم أولئك المتمردون الذين لا يَسمحون لأنفسهم بالاستسلام للعاصفة مهما أَجْبَرَتْهُم على لَيّ أعناقهم.. صَدِّقْ يا صديقي أنهم يَقبلون لَيَّ أعناقِهم، ولا يَقْبَلون لَيَّ كَلمتِهم أو خُطواتهم..
الجوع والعطش، هذا هو السّمّ القاتِل ببطء، فماذا تظن أنك فاعل قُبالَتَهما يا مَن تُجْبَرُ على أن تُواجِهَ الْمَصيرَ الذي كان في انتظار أبطال «عناقيد الغضب»؟!
شيء من الحكمة لا يَغيب عن عنوان رواية ستاينبك تلك، هذا صحيح حقا، لماذا؟ لأن الغضبَ الذي تَلِدُه ثورةُ الجوع والعطش يَجعلُ الغضبَ يَنمو ويَكبر كدالية، دالية تورِق وتُزهر، لكنها تُزهِر أزهار الشَّرّ الذي تُخَبِّئُه العيون الجافَّة وتُضْمِرُه..
الغضب دالية عناقيدها الحانية مُرٌّ عِنَبُها، كيف لا والعِنَب ذاك يَختمر كما يَختمر الصمتُ في التجربة الْمُرَّة.. إنه الصمت الْمُوازي للهدوء الذي يَسبق العاصفة..
صاحِب «فئران ورجال (DES SOURIS ET DES HO
بقلم : سعاد درير
copy short url   نسخ
28/10/2017
3806