+ A
A -
كما ذكرنا في المقالة السابقة تحتل الصين الآن المركز الثاني عالميا من حيث حجم إجمالي الناتج القومي (القيمة السوقية لما يتم انتاجه من سلع وخدمات) بعد الولايات المتحدة الأميركية، كما أن حجم تعاملاتها الخارجية (من تصدير واستيراد) مع بقية دول العالم أصبح من الضخامة بحيث أن أي زيادة أو نقص في معدلات نمو الصين يمكنها أن تؤثر على معدلات النمو العالمية لمعظم الدول المتعاملة معها إيجابا أو سلبا. وهذه لم تعد احتمالات وتوقعات، فحتى وقت قريب جدا (منذ خمس سنوات فقط)، كانت الصين ذلك التنين صاحب الشهية التي لا تشبع والذي يتغذى على مائدة المواد الخام العالمية.
فالصين تستهلك أكثر من ثلثي المعروض من الحديد الخام العالمي، ونحو نصف إنتاج العالم من النحاس، وأيضا نصف العرض العالمي من النيكل، وحوالي ثمن العرض العالمي من النفط. ومن ثم لكم أن تتخيلوا ماذا يحدث الآن لأسعار هذه المواد حينما تباطأت معدلات النمو في الصين. لقد وصلت أسعار السلع والمواد الخام العالمية إلى أدنى حد لها منذ مائة عام تقريبا.
هناك أمثلة عديدة على تأثر معظم اقتصاديات العالم المتقدم والنامي والناشئ بهبوط معدلات النمو في الصين. سواء في أنجولا التي يعتمد اقتصادها على تصدير النفط للصين. أو إندونيسيا التي تورد الفحم للمصانع أو بيرو التي تبنى فلنكات السكك الحديدية لقطاع النقل الجماعي في الصين. لذا أضحى من الضروري الاهتمام بمحددات النمو في الصين ومعرفة الأسباب التي نتوقع معها أن معدلات النمو الصينية لن تعود لسابقتها (18-19%) ومن ثم يجب التعايش مع المعدلات الحالية (5-7%) ولفترات مستقبلية ليست قصيرة. ومن أهم هذه العوامل التي تحدث الآن في الصين وتغذي التوقعات ببطء النمو ما يلي:
أولا-أن الاقتصاد الصيني يمر الآن بمرحلة ما يسمى تناقص الغلة أو تناقص الإنتاجية الحدية للعمل: ذلك لأنه تم استنفاذ معظم الفائض العمالي الذي كان متواجدا في القطاع الزراعي (أكثر من 300 مليون عامل). ومن ثم أية عملية توظيف جديدة ستتطلب تكاليف أكثر في التدريب والاستثمار الرأسمالي للحفاظ على مستوى الإنتاجية السابقة.ش
ثانيا-تغير التركيبة العمرية للسكان في الصين: ومن ثم قل حجم الفئة السكانية التي تدخل سوق العمل بالمقارنة بالفئة العمرية الأكبر. أي أن الشيخوخة دبت في المجتمع الصيني بسبب سياسة الطفل الواحد التي أتبعتها الصين لفترة طويلة وبدأت الحكومة الصينية فعلا في محاولة معالجة المشكلة بتخفيف القيود على الأنجاب وعدم التمسك بسياسة الطفل الواحد من الآن فصاعدا.
ثالثا-ارتفاع الأجور في القطاع الصناعي والزراعي: وذلك كنتيجة طبيعية ومحمودة للتنمية السريعة ولكن من الآثار الجانبية هنا هو ارتفاع تكاليف المعيشة والأهم ارتفاع تكاليف الإنتاج. وبالتالي تفقد الصين الآن إحدى مزاياها التنافسية الخاصة بانخفاض الأجور وتتنازل عن عدد ليس قليل من أسواقها للدول الآسيوية الناشئة التي تتميز بأجور عمالها المنخفضة مثل فيتنام وإندونيسيا وبنجلاديش.
رابعا-انتقال الاقتصاد الصيني من مرحلة التقليد إلى مرحلة الابتكار: كنتيجة للعوامل السابقة ومحاولة الصين الآن الدخول في أسواق السلع الكثيفة الربحية وكثيفة التكنولوجيا تقوم الصين الآن باستثمارات أكبر في البحوث والتطوير حتى تستطيع المنافسة الحقيقية مع الدول المتقدمة التي تحتكر هذه الأسواق. ولا شك ان هذا يعنى تكاليف أكبر وفترة أطول لاسترداد هذه التكاليف مما يؤثر على معدلات النمو الحالية.
خامسا-الاعتماد على الاستهلاك كمحفز للنمو: مع التحولات الجارية في الاقتصاد الصيني واستنفاذ فائض العمل يصبح «نموذج لويس» الذي سبق شرحه والذي يعتمد على «الاستثمار» كمحفز للنمو غير ملائم وعلى الصين أن تعتمد على عامل محلى كبقية الدول الرأسمالية المتقدمة ومن ثم يكون «الاستهلاك» المحلى هو البديل وهذا بالضرورة غير كاف لتحقيق نفس المعدلات العالية التي تم تحقيقها خلال الثلاثين عاما الماضية.
سادسا-محاربة الفساد والتوفيق بين ادعاءات النظام الشيوعي وحقائق النظام الرأسمالي: وهذان العاملان يعتبرا من أهم التحديات المستقبلية التي ستعيق تحقيق نفس معدلات النمو السابقة ووصول الصين إلى مصاف الدول المتقدمة. أذا كانت محاربة الفساد معناها القضاء على معارضي النظام وإذا كانت الإصلاحات الموجهة نحو ادخال مزيد من ميكانيكية السوق وكسر التأمينات الضمنية على الشركات والبنوك المملوكة للدولة لن يتحقق بشأنها توافق سياسي فهذا من شانه أن معدلات النمو لن تنخفض فقط بل يمكن أن تتدهور وتنتهي الصين بهبوط عنيف قد يفقدها كثيرا من المنافع والمزايا التي اكتسبتها في الثلاثين عاما الأخيرة. وهذا مالا نتمناه.

بقلم : حسن يوسف علي
copy short url   نسخ
18/05/2016
2617