+ A
A -
اعتاد العالم على أن يشهد حضورا مؤثرا للسياسة الأميركية في معظم إن لم يكن كل الأزمات الدولية، بغض النظر عن الاختلاف أو الاتفاق مع هذه السياسة. ولكن منذ أن وصل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض اتسعت دائرة اشتباك الولايات المتحدة مع عديد الأطراف الدولية، وتوالت في نفس الوقت المؤشرات على تراجع تأثير الدور الأميركي، على عكس ما توقعه ترامب من خطاب الحرب الذي لم يتوقف عن ترديده.
لقد جاء الرجل وسط انقسام لم يشهده المجتمع الأميركي من قبل، وكان شعاره الأسمي هو إعادة أميركا قوية وعظيمة داخليا وخارجيا، متهما الإدارة السابقة في عهد سلفه أوباما بأنها فرطت في الدور الأميركي ولم تتخذ مواقف صارمة مع خصوم الولايات المتحدة ولا مع منافسيها، ومن ثم شرع في اتخاذ مواقف مغايرة إلى حد كبير عما كانت عليه السياسة الخارجية في عهد أوباما، بدت كلها تصادمية حتى مع الحلفاء الأوروبيين.
وبمضي الوقت ووضع هذه المواقف المسبقة موضع الاختبار بدأت إدارة ترامب وهو شخصيا تجني الخسائر السياسية بدلا من المكاسب، ووجدنا أنه مع كل أزمة يرتفع المنحنى صعودا إلى حد التهديد والوعيد، بل والتلويح بخطاب الحرب في بعض الأزمات، ثم سريعا ما يهبط المنحنى ويصبح التراجع هو سيد الموقف، وما بين الصعود والهبوط تتراجع درجة الثقة في الدور الأميركي على الصعيد الخارجي.
بعد الصداقة مع موسكو التي لم يخفها خلال حملته الانتخابية، دخلت إدارته في صدام صريح معها انتهى إلى الطرد المتبادل لأعداد كبيرة من الدبلوماسيين. وبرغم التعاون الذي تحقق مبكرا مع روسيا في الأزمة السورية، تحولت العلاقة إلى خلاف يصل إلى حد الصدام في نفس القضية. وبالنتيجة كان ترامب يريد استعادة الدور الأميركي في الأزمة السورية ويزيح الدور الروسي تطبيقا لشعاره إعادة الريادة المفقودة للولايات المتحدة، بدلا من ذلك إذا بالدور الروسي يصبح هو الأكثر تأثيرا ليس في سوريا وحدها بل في الشرق الأوسط كله بما فيه المنطقة العربية.
واستدار ترامب إلى الملف الإيراني مؤكدا أنه عازم على إلغاء الاتفاق النووي الإيراني الأميركي لأنه في تقديره جاء لمصلحة طهران. ولكن تهديداته هذه لم تتعد نطاق البيت الأبيض حيث يقيم لأسباب عديدة منها أن الدول الأوروبية الشريكة في التوصل إلى هذا الاتفاق لم توافقه على هذا الموقف، كما لم يجد حماسة من الكونجرس، فضلا عن أن طهران قابلت التهديدات الأميركية بما هو أشد منها وفقا لما صدر عن الحرس الثوري الإيراني ردا عليها.
ومرة أخرى انتقل منحنى الصدام إلى التراجع بعد أن بدأت إدارة ترامب لا تتحدث عن الاتفاق، وإنما عن غياب الالتزام بروح الاتفاق.
ويعد التصعيد مع كوريا الشمالية أبرز معالم توسيع دائرة الاشتباك مع الخارج.
وعودة سريعة بالذاكرة إلى الوراء قليلا واجه الرئيس الأميركي الاستفزاز الكوري الشمالي بخطاب للحرب دون النظر في البدائل الأخرى وإدراك العواقب الوخيمة التي يمكن أن تترتب على اشتعال حرب لا تطول كوريا الشمالية وحدها بل دول مثل الصين وكوريا الجنوبية. حدث ذلك التصعيد من جانب ترامب بينما كان الآخرون بدءا من الصين إلى روسيا مرورا بدول أوروبا الغربية يسعون جاهدين إلى نزع فتيل الأزمة وإقناع الرئيس الأميركي بالحل السلمي. وهو الأمر الذي حدث من جانبهم بالفعل ولكن بقيت صورة ترامب لديهم بأنه قيادة مندفعة تتكلم كثيرا وتفعل قليلا خصوصا أنه أخذ يتراجع إلى الوراء بعد أن هدأت العاصفة.
هكذا تصرف ترامب في أكثر من أزمة: تصعيد ثم تراجع، والنتيجة هي اهتزاز الثقة الدولية في السياسة الأميركية.
ما كان له أن يوسع دائرة الاشتباك مع الخارج طالما أنه يتعامل داخليا مع مجتمع أميركي منقسم، وخارجيا مع نظام عالمي يتسم بالسيولة وتتجاذبه صراعات شتى.

بقلم : د. عبدالعاطي محمد
copy short url   نسخ
21/10/2017
2331