+ A
A -
..... والبادية أيضا صوت.. وهو، أول ما فتح عينيه في أبوحليمة شمال الخرطوم، فتحهما- أوسع ما يستطيع- على الصوت.
- يا للرحابة.. ويا للقوة، ويا للجبروت، ويا لكل هذا التلوين.
أتخيله- الفنان النور الجيلاني- تلمع في أذنه هذه الجملة، والصوت في البادية، يملأ كيانه كله، وهو يفتح عليه عينيه الاثنتين معا، والعين.. العين تسمع قبل الأذن، أحيانا!
شب، في أبوحليمة، وشبّ صوته، وحين اخترق صوته أذن هنا أمدرمان: «مادلينا» وكدراوية» شهقت أرواح كل العاشقين، ليس فقط في الكدرو والهضبة الإثيوبية وأثينا، وإنما أرواح كل العاشقين الكبار، للصوت... وصوت النور الجيلاني حين شب إلى فوق، أخذت كل طبقة من طبقاته ملامح قوس قزح.. وحين تدلى، تدلى عناقيد من همس وبوح وتراتيل وصلاة.. صلاة أقرب إلى تلك التي تهيم بها أرواح الثلث الأخير من الليل!.
«صييت».. النور الجيلاني.. والمغنون الصييتون، هم أبرز المغنين على الإطلاق، في ميزان أذن الفن.
الذين يهيمون بالفنان السوداني الصييت خضر بشير، هاموا أكثر وأكثر بالصييت النور الجيلاني، رأوا في صوته عبقرية، وتنبأوا له بدوي، سيصم أذن الدنيا.
عبقرية النور، ليست في كل حزم الضوء تلك التي تلمع في صوته فقط. النور حزم ضوء من التلحين المخيف.. من الإيقاع.. من تداخل أصوات الآلات النحاسية بشكل خرافي..
من تداخل صوته مع صوت جوقة الشيالة.. وشيالة النور هم شيالة كل الأصوات الخفيتة.. السلسة، المتدرجة، السنينة، في «أبو حليمة»!
حدثونا عن عذاب المغنى، زمنا.. لكن ليس من سمع كمن رأى، وحين رأيتُ النور الجيلاني في واحدة من حلقات السر قدور، تبكي كل خلية من خلايا روحه، لأن صوته انحبس كليا داخل جهازه الصوتي، رأيت عذاب المغنى!
كانت نسرين هندي، في قمة اللعب بكل مكونات صوتها العذب العذاب، وهي تغني:
رحت عني بعيد..
شلت الحنان والريد،
وين.. حبنا العشنا؟
لا. ليست مصادفة أن تغني نسرين تلك الأغنية- وهي من أغاني النور الباكية- وروح النور كلها في عويل على الصوت الذي راح.. راح عنه بعيدا، شايل الحنان والريد!
تلبستني حالة النور الجيلاني، في تلك اللحظة. تلبستني دمعة روح، وحرقة حشا، وانفقاع بكية. تلبستني إلى الدرجة التي رحتُ فيها، أتخيل أتخيل نفسي– كما النور- مخفيا رأسي بقبعة.. مخفيا عيني وراء نظارة شمسية.. شابكا يديا الاثنتين، ودمعي ينقط جوايا تف.. تف.. تف!
عذاب المغني، في رحيل أعز ما يملك: صوته.. وعذاب كل الذين الذين انتبهوا اخيرا إلى عبقرية النور الجيلاني، إنهم انتبهوا إليه بعد أن رحل عنه، أحب ما يملكه في هذه الدنيا!
الآن، الدنيا ليل.. و«فى عز الليل أنا مساهر».. وما بين القوسين من أحب أشعار التجاني حاج موسى التي لحنها الفنان السوداني الكابلي بكل عبقريته اللحنية.. الأغنية الآن تدثر روحي، بكل دموع أواخر العمر، وأنا أستمع إليها بتلحين وأداء النور الجيلاني. عبقرية لحنية تفوقت على عبقرية النور لكأنما وضع كل ألحان العالم في هذه الاغنية- كما يقول صديقي العارف بالفن- نجيب نور الدين.
يشرئب الصوت الصييت:
وجرحك، ياغرام الروح..
لا طاب،
لا بدور يبري..
متين يبري؟!
ويتدخل الصوت- صوته- مع صوت الشيالة «متين يبري».. وتتداخل الأصوات مع أصوات كل المعذبين في هذه الدنيا، بجروح الروح.. وجروح الروح لا بتطيب ولا بترى!
ويخرج علينا من البرزخ، صديقنا محجوب شريف، وفي فمه: كل الجروح بتروح.. إلا التي في الروح!»
جرح النور، جرحي.. وأنا «في عز الليل مساهر» مع عذابه: عذاب المغني.
- آلو.. يا نجيب.. خليني من كلام الأطباء.. قول ليا كلامك إنت يانجيب.. النور الجيلاني رحل صوته كيف؟
- ومن مكان ما في الثورة21 يجيئني صوت نجيب، مساهر: النور الجيلاني فنان حساس جدا. رقيق جدا. مرهف جدا. النور دمعة قريبة تنقط وهو يغني. في اعتقادي النور فقد صوته من ناحية نفسية. الحساسية المفرطة عادة بتفقد الزول أشياء عزيزة جدا.. النور الحساس فقد صوته بسبب التحولات الضخمة المامفهومة التي ضربت كل الناس.. وضربت الفن، والرياضة، والثقافة، والاجتماع، و...
- وضربتك أنت.. وضربتني أنا ذاااتي يانجيب!
- وكان النور الجيلاني، لا يزال يغني.. وكان- كما تخيلته- يغني لصوته الذي رحل، وهو في قمة زهوه وتلوينه وجبروته وحنينه:
«وجرحك، ياغرام الروح،
لا طاااااب..
لا بدور يبري..
متين.. متين يبري؟
بقلم : هاشم كرار
copy short url   نسخ
15/10/2017
3784